Atwasat

تشريح القنفذ ـ القذافي والوحدة (23)

عمر الكدي الإثنين 22 يناير 2024, 05:56 مساء
عمر الكدي

لم يطرح موضوع الوحدة مع مصر خلال حياة الرئيس عبدالناصر. تم التركيز على دعم المجهود الحربي المصري لاستعادة الأراضي المحتلة، وتوجت الجهود بصفقة طائرات الميراج، وفي تقديري لو عاش عبدالناصر لكانت الخلافات كبيرة بينه وبين القذافي، وخلال زيارته لليبيا قال عبدالناصر في خطاب أمام الجماهير «أترككم وأنا أقول إن أخي معمر القذافي هو الأمين على القومية العربية وعلى الوحدة العربية»، وبعد أسابيع توفي عبدالناصر فجأة وترك «الأمانة» للقذافي. ثمة من يقول إن عبدالناصر قصد بجملته هذه دعم القذافي في صراعه مع أعضاء مجلس انقلابه، وترك لفتحي الديب حل الخلافات بينهم.

مع السادات تغير الأمر وبدأ القذافي يطرح الوحدة الاندماجية بين مصر وليبيا.

من الواضح أن القذافي أساء تقدير دهاء السادات، ورأى أنه رئيس ضعيف وهو الأجدر بحكم البلدين، ولكن السادات كان يتحجج بتحرير الأرض أولًا ثم مناقشة الوحدة، ووافق على مضض على تشكيل اتحاد ثلاثي بين مصر وليبيا وسورية، وخلال حرب أكتوبر 1973 أدرك القذافي أن السادات خدعه، عندما علم بعبور القوات المصرية لقناة السويس من الإعلام، وعندما سافر على عجل إلى القاهرة وحاول دخول غرفة العمليات أمر السادات بمنعه.

تحول الاتحاد الثلاثي إلى حبر على الورق، وساءت العلاقات بين البلدين حتى وصلت إلى اشتباكات على الحدود عام 1977، ثم قطعت العلاقات وبدأت الحملات الإعلامية بين الطرفين، وسمح السادات لعمر المحيشي بمهاجمة القذافي من إذاعة الشرق الأوسط.

الإحساس بأن ليبيا صغيرة على مقاس القذافي ظل يلازمه دائمًا، فعندما يئس من السادات توجه القذافي غربًا، واقترح على الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وحدة اندماجية، يكون رئيسها الحبيب بورقيبة واكتفى القذافي بوزارة الدفاع، ولكن تهديد بومدين باكتساح تونس وهواجس بورقيبة من القذافي، جعله يتراجع عن اتفاقية جربة التي وقعها قبل يوم واحد.

لم يطرح القذافي أي شكل من أشكال الوحدة مع الجزائر، فهو يخشى بالفعل الرئيس بومدين، وعندما ضاقت عليه الجدران فكر القذافي في وحدة مع مالطا، واتفق مع رئيس وزرائها دو منتوف على إجلاء القواعد البريطانية من الجزيرة مقابل أن تدفع ليبيا إيجار القواعد. في الحقيقة كانت بريطانيا قد قررت الجلاء عن مالطا بمحض إرادتها، ولكن ثعلب السياسة المالطية رأى أن يستفيد من اندفاع القذافي.

تحولت القواعد البريطانية لتستضيف طلبة المعاهد العليا التقنية والإلكترونات والكهرباء، بالإضافة إلى معهد متوسط للكهرباء في تاجورني، وهكذا استفاد المالطيون أكثر من استفادتهم من تأجير القواعد لبريطانيا. في عام 1978 زار القذافي مالطا واجتمع مع طلبة المعاهد العليا، وبعد أن اطمأن لعدم وجود مالطي واحد في القاعة، شجع القذافي الطلبة على الزواج من مالطيات وأن الدولة ستدعم الراغبين في ذلك، ملمحًا إلى وجود أكثر من طريقة للوحدة الاندماجية.

لم يستفد من هذا التشجيع إلا الطلبة الذين يصطحبون صديقاتهم إلى القسم الداخلي، دون أن يمنعهم المسؤولون بحجة أنهم يطبقون توجيهات القائد.

التقط الملك الحسن الثاني بدهاء ضعف القذافي أمام الوحدة العربية، وعرض عليه إقامة وحدة بين البلدين توجت باتفاقية وجدة التي أسست لكيان جديد هو الاتحاد العربي الأفريقي، ولكن ذلك الكيان لم يولد أبدًا بالرغم من أن الحسن الثاني استفتى شعبه الذي وافق على المشروع.

اكتفى الحسن الثاني بإيقاف دعم القذافي لجبهة البوليساريو، وأن يتوقف المغرب عن دعم واستضافة المعارضة الليبية، وفوقها تسليم عمر المحيشي* مقابل 200 مليون دولار، وأغنية لفنان شعبي مغربي تقول «الله تجازي اللي كان السبب مولاي الحسن والرئيس القذافي»، وأغنية لمحمد حسن تقول «وجدة يا هوى العشاق سجدة للفرح سجدة»، وردت الجزائر باستضافة المعارضة الليبية، وشعر القذافي بأنه على رأي الشوام «أكل خراء» فالمعارضة صارت على حدوده في الجزائر وفيما بعد في تشاد.

عمليًّا نجح القذافي في قطع العلاقات مع مصر عقدًا كاملًا، وقطع العلاقات مع تونس حتى انقلاب زين العابدين بن علي عام 1987، وتوتر العلاقات مع الجزائر خلال حكم الرئيس الشاذلي بن جديد، ولم يجد من يتحد معه إلا الرئيس حافظ الأسد، فاستقبله في طرابلس وبيده مكبر صوت يدوي وهو يهتف «حافظ حافظ لا تهتم جوك رجال بتشرب دم، بالدبابة والبردم الجولان انغرقها دم»، بينما الرئيس الأسد يهز رأسه موافقًا، وفشلت الوحدة بعد محادثات طويلة صمت خلالها الأسد والقذافي، وتركا جلود وعبدالحليم خدام يتخاصمان حول النظام الجماهيري وعقيدة حزب البعث، دون أن يدركا أنهما مجرد عجلتي احتياط في صندوق سيارة القذافي وسيارة الأسد، وسيتم الاستغناء عن خدماتهما عندما يكبر الأولاد.

وأخيرًا أعد القذافي مشروعًا للاتحاد العربي من خلال جامعة الدول العربية، وهو أشبه بمشروع الاتحاد الأوروبي، دون أن يدرك القذافي أن الذي وحد الأوروبيين هو صناعة الحديد والصلب، وعندما يئس القذافي من العرب توجه إلى أفريقيا، ولم ينظر أبدًا تحت قدميه ليرى ليبيا، ويفكر بتنميتها بطريقة علمية ولو فعل ذلك لعصم نفسه، وترك البلاد بعده لأحد أبنائه، ولكنه نظر أخيرًا تحت قدميه عندما أخرجه الثوار من الأنبوب قرب الحي الثاني في سرت. نظر إلى الأرض ليعرف أين يضع قدميه وهي خطوة تأخرت 42 سنة من النظر إلى أعلى.

_________
* إلى جانب تسليم المحيشي، سلمت المغرب واحدًا وخمسين شخصًا من «جبهة الإنقاذ» يقال إنهم كانوا يمثلون الجناح اليساري في الجبهة. لذا كان تسليمهم دعمًا لجناحها اليميني. (المحرر)

 

مقالات سابقة في السلسلة
تشريح القنفذ (23) ـ القذافي والوحدة
تشريح القنفذ (22) ـ القذافي مهرجًا
تشريح القنفذ (21) ـ القذافي واللجان الثورية
​- تشريح القنفذ (20) ـ القذافي والنساء
تشريح القنفذ (19) ـ القذافي متنبئا
​- تشريح القنفذ (18) ـ شجاعة القذافي
تشريح القنفذ (17) ـ ذكاء القذافي
​- تشريح القنفذ (16) ـ القذافي والفن
تشريح القنفذ (15) ـ القذافي والإعلام
​- تشريح القنفذ (14) ـ القذافي والمثقفون
تشريح القنفذ (13) ـ أيديولوجيا القذافي
​- تشريح القنفذ (12) ـ ثقافة القذافي
تشريح القنفذ (11) ـ القذافي مفكرًا
​- تشريح القنفذ (10) ـ القذافي والطلبة
تشريح القنفذ (9) ـ القذافي المراوغ
تشريح القنفذ (8) ـ رسول الصحراء
تشريح القنفذ (7) ـ الحاكم بأمره
تشريح القنفذ (6) ـ وجوه القذافي العديدة
تشريح القنفذ (5) ـ الانقلاب على الرفاق
تشريح القنفذ (4) ـ تحليل شخصية القذافي
تشريح القنفذ (3) ـ القذافي والقنفذ
تشريح القنفذ (2) ـ البدوي الأخير
تشريح القنفذ (1) ـ تحليل شخصية الطاغية