Atwasat

مولد الإنسان الناطق

عمر الكدي الإثنين 22 أبريل 2024, 04:24 مساء
عمر الكدي

الإنسان العاقل «هومو سابينس» هو المخلوق الوحيد القادر على النطق، فالرئيسيات وجميع أنواع الإنسان التي سبقته في الظهور كانت غير قادرة على النطق، ويبدو أن خاصية النطق نتجت عن طفرات، أسهمت في جعل الإنسان العاقل قادرا على الكلام، فمثلا توصل العلماء إلى تحديد الجين المسؤول على الكلام، وهو الجين المعروف باسم «إف إكس أو بي 2»، وعثروا على هذا الجين عند أنواع بشرية منقرضة مثل إنسان نياندرتال، ولكن الجين البشري أكثر تطورا.

قبل تحول العالم إلى النظام الرقمي كان يصعب فهم دور هذا الجين، ولكن الآن لدينا نوعان من الهواتف المحمولة، أكثرها تطورا هو الهاتف الذكي والآخر هاتف غير ذكي، لا يصلح لتنزيل الكثير من التطبيقات، فمثلما الكمبيوتر يتكون من «هارد وير» و«سوفت وير» كذلك هو الإنسان، السوفت وير عند الإنسان مسؤولة عنها البرمجيات الموجودة في الخلايا وتحديدا في الصبغيات «الكروموسومات»، التي يحمل كل واحد منها مئات الآلاف من الجينات.

الفرق بين الكائنات الحية والآلات هو أن هذه الجينات تنتقل في الكائنات الحية عن طريق الوراثة، بينما تحتاج الآلات إلى إعادة برمجة في كل مرة لتنزيل برنامج جديد، ولكن حتى الآلات تحتاج إلى تعديل الهارد وير لتقبل ببرنامج أكثر تطورا، وهذا بالضبط ما حدث للإنسان العاقل أو الناطق.

الإنسان الناطق هو الوحيد الذي حدث له تغيير فسيولوجي أي يخص الهارد وير وليس فقط السوفت وير، حيث زود بعظمة في الرقبة تسمى العظمة اللامية على شكل حدوة حصان، هي التي ميزته عن بقية أنواع الإنسان غير الناطقة، كما حدث له تغيير في الحجاب الحاجز الذي أصبح مزودا بخلايا عصبية متطورة، وطال التغيير الحبل الشوكي والمخ، فتكونت منظومة سمحت له بالكلام. يذكر أن أول أنواع الكمبيوتر غير قادر على الكلام، وأول نسخة من الآلة الحاسبة التحليلية تعود للعالم البريطاني تشارلز بابيج العام 1822، ولهذا استحق بابيج لقب «أبوالكمبيوتر»، واليوم تنطق الكمبيوترات تقريبا وتترجم كل لغات الأرض البالغة 6500 لغة، على الرغم من أن لغة الكمبيوتر بدأت بحرفين فقط هما الرقمان «0، 1»، بينما يصل عدد الحروف في اللغة الكمبودية إلى 72 حرفا، وفي اللغات الأكثر انتشارا تصل إلى 26 حرفا في الإنجليزية و28 حرفا في العربية، وهذا فقط يخص عدد الأصوات التي ننطقها حين نستخدم هذه الحروف، فاللغة الصينية المكتوبة تتجاوز حروفها الخمسمائة حرف، والسبب يعود إلى أن حروف الصينية هي صور أكثر منها أصوات منطوقة، ولكن عندما يتحدث الصينيون لن ينطقوا أصواتا أكثر من بقية البشر.

القدرة على إخراج أصوات متعددة من الحنجرة بمساعدة اللسان ليس هو اللغة فاللغة أكثر تعقيدا، لعل اللغة بدأت خلال رحلات الصيد، فيصدر أحدهم صوتا مميزا ويومئ ويشير بيديه ليخبر الآخرين أنه رأى طريدة يمكن صيدها، ثم يتولى قائد الفريق توزيع فريقه بإشارات من عنده لإحكام الطوق على الطريدة، وبعد نجاحهم في صيد الطريدة يرقصون ويصدرون أصواتا تعبر عن النصر والسرور، وهذا في حد ذاته ليس تطورا فالدلافين تتواصل بلغة تفوق قدرة الأذن البشرية على سماعها، وتتفوق على البشر في الصيد، كما أن الغوريلا يعرب بصخب عن انتصاره وهو يدق الأرض برجليه ويضرب صدره بيديه، وللذئاب لغتها وهي تصطاد، ولكن المشكلة تبدأ عند الإنسان ليس في التعبير عن شيء حاضر تكفي الإشارة إليه لمعرفة ما يقصده.

المشكلة في التعبير عن شيء غير موجود أمامه، أو للتعبير عن شيء من الماضي، وإن كان يعبر بسهولة عن العواطف والمشاعر المعقدة مثل الحب والغضب والحزن، وهذه المشاعر تعبر عنها القردة العليا بطريقة مميزة، بل تصل إلى البكاء وسكب الدموع عند الفيلة والإبل. التعبير عن شيء مجرد هو البداية الحقيقية للغة.

تعود أقدم اللغات المكتوبة في العالم إلى بلاد الرافدين، فقد ظهرت الأبجدية المسمارية في العراق قبل ظهور الهيروغليفية في مصر بخمسمائة سنة على الأقل، ففي أسواق أريدو وسومر وغيرها من المدن السومرية والمدن البابلية بعدها، كان التجار يحملون ألواحا طينية يرسمون عليها البضاعة التي يودون بيعها، بينما يرسم التجار الآخرون ما يمكن مبادلته مقابل هذه البضاعة، ومع الوقت بدأوا يختصرون تلك الصور إلى رموز تحولت إلى حروف أول أبجدية وهي الأبجدية المسمارية، لتصل مرحلة النضج عندما كتبوا بها ملحمة جلجامش، ثم تفرعت وتنوعت الأبجديات ولأن الأبجدية بدأت في بلاد الرافدين، يزعم بعض الكهنة والأحبار أن البشر كانوا يتكلمون لغة واحدة هي لغة آدم، ولكنهم يختلفون حول أي لغة كان يتحدث بها آدم، فاليهود يقولون إنها العبرية، والمسيحيون يقولون إنها الآرامية لغة المسيح، والمسلمون يقولون إنها اللغة العربية لغة القرآن، وبعد انهيار بابل تبلبلت اللغة الواحدة وأصبح الناس ينطقون لغات عديدة. هذا طبعا قبل زمن طويل جدا من اكتشاف الجين المسؤول عن النطق المذكور أعلاه.