Atwasat

مركزية العقل البدوي

عمر الكدي 4 أيام
عمر الكدي


لا أقصد بالبداوة نمط العيش ومنظومة القيم التي كانت سائدة في عصر ابن خلدون، فاليوم تحضر الجميع ظاهريا بل إن شعوبا بدوية كاملة انتقلت إلى الحداثة مباشرة بفضل عوائد النفط والغاز. نلاحظ ذلك في الرياض ودبي وأبوظبي والدوحة، وهو ما نلاحظه في ليبيا والعراق والجزائر. ولكن نمط التفكير ظل كما هو عندما كانت هذه المجتمعات بدوية في معاشها وقيمها، بينما تراجعت مجتمعات كانت واعدة في العراق والشام ومصر، واختفت الليبرالية النخبوية والديمقراطية البرلمانية وهبطت نوعية التعليم وكأن المنطقة دخلت في ثقب أسود، وهو النظام المعرفي الذي أطلق عليه محمد عابد الجابري نظام البيان.

اليوم حتى الذين يعيشون على ضفاف النيل ودجلة والفرات والهلال الخصيب وشمال أفريقيا يخضعون لهذا النظام، وينعكس هذا النظام في أهم الأحزاب والحركات الأيديولوجية، ولهذا لا فرق يذكر بينها فجميعها تقيس الغائب على الشاهد. الإسلاميون يرجعون إلى زمن الخلافة وفي أفضل الأحوال إلى زمن الخلفاء الراشدين، والشيوعيون يعودون إلى ماركس ولينين، ويبحثون في التاريخ العربي عن رموز تمثلهم، مثل أبي ذر الغفاري والقرامطة وثورة الزنج وعبدالله بن مسعود وعمار بن ياسر، والقوميون يبجلون خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي على الرغم من أصوله الكردية، وجمال عبدالناصر وميشيل عفلق والبيطار، والشيعة يعودون إلى رموزهم التاريخية، ولكن الجميع يخضعون للنظام نفسه.

نظام البيان، كما وصفه الجابري، هو نظام يعود إلى أصل مقدس، قد يكون الجد الأعلى في حالة البدو، وقد يكون نصا مقدسا في حالة الفقهاء، أو منظومة العرف والتقاليد بالنسبة للأخلاق، وهو نظام يقارن بين شيئين لمعرفة التشابه بينهما فما طابق الأصل البعيد يقبل وما خالفه يرفض. هذا النظام موجود بقوة في التشريع والفقه والأخلاق والفن والجمال وحتى في العلم، بينما يقارن نظام البرهان بين شيئين لمعرفة الاختلاف بينهما، وليس العودة إلى أصل قديم، وهذا يفسر تطور الفلسفة والعلوم والأدب والفكر في العصر العباسي، قبل أن يسود من جديد نظام البيان.

ما السر في أن شعوبا كثيرة انتقلت من البداوة إلى التحضر؟، بينما علقت هذا المنطقة في مركزيتها البدوية حتى الآن. القبائل الألمانية كانت بدوية، وسكان إسكندنافيا الفايكنغ كانوا كذلك، وهم من دمر الإمبراطورية الرومانية، فانتقلت أوروبا من نظام البرهان اليوناني كما صاغه أرسطو، إلى نظام البيان الكنسي الذي قرر أن كل المعارف موجودة في الكتاب المقدس، أي أن أي شيء جديد يقارن بالكتاب المقدس فما طابقه يقبل وما خالفه يرفض، ولهذا رفضت الكنيسة مقولة القس البولندي كوبرنيكوس بمركزية الشمس في المجموعة الشمسية، لأنها تخالف الكتاب المقدس الذي يقول إن الأرض هي المركز، ثم رفضت اكتشاف غاليليو بأن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس.

انتقلت أوروبا بالكامل إلى نظام البرهان وانتعشت الفنون والآداب والعلوم، وتحولت القبائل البدوية الجرمانية إلى ألمانيا عملاق أوروبا الاقتصادي، والبلد الذي أنجب عددا من الفلاسفة يفوق عدد ما أنجبه الإغريق، بينما تحولت إسكندنافيا إلى أكثر المجتمعات تطورا في التاريخ من جميع الوجوه. هل ثمة أنظمة أخرى في أوروبا؟ نعم يوجد نظام البيان والعرفان ولكن على الهامش، بينما تراجع العرب والمسلمون حتى إننا عجزنا عن إنجاب فيلسوف واحد في العصر الحديث، لا نزال نتغنى بابن رشد وابن خلدون، فالفيلسوف هو من ينتج منهجا جديدا في التحليل والتفكير، والجابري وأركون وطه حسين ليسوا فلاسفة، فكل منهم استعار منهجا من الفلاسفة الأوروبيين وحلل به تراث العرب والمسلمين، وهو ما يؤكد أننا غير قادرين على مغادرة التمركز الفكري البدوي ونظام البيان.

لعلكم تتساءلون لماذا أهملت نظام العرفان كما وصفه الجابري؟، لدي ملاحظات حول هذا النظام، فالجابري اعتمد على المنهج البنيوي وتحديدا كما استخدمه ميشيل فوكو لتحليل العقل الغربي. فوكو لم يهمل حتى الجنون في تقصيه لهذا العقل، وهذا واضح في كتبه مثل «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، والكلمات والأشياء، المراقبة والعقاب، وولادة العيادة، بينما أهمل الجابري تحليل نظام العرفان واعتبره نظاما غير عقلي، وهكذا وضعنا في إشكالية مع فلسفة ابن سينا وتصوف ابن عربي، فابن سينا، وفقا لتصنيف الجابري، عرفاني في الفلسفة وبرهاني في الطب، وهو الذي اعتمدت الجامعات الأوروبية كتبه حتى نهاية القرن السابع عشر.

وفي تقديري لم يفرق الجابري بين الفكر واللغة التي عبرت عن هذا الفكر، فعندما يعبر ابن عربي عن اعتقاده بوحدة الوجود فهو لا ينتمي لنظام العرفان الغنوصي والهرمسي، بل لنظام البرهان، ففي وحدة الوجود الخالق هو الكون، وتنطبق صفات الله على الكون فهو الأعظم واللامتناهي وليس كمثله شيء في نظر ابن عربي، فإذا اختفى الكون يختفي كل شيء، يبدو أن الجابري واجه الإشكالية نفسها التي واجهها ماركس، عندما حاول تطبيق نظريته على مجتمعات الشرق الأدنى والأقصى وشمال أفريقيا خلال إقامته في الجزائر، فوجد أنظمة هذه المجتمعات أشبه بثآليل تظهر على بشرة نظريته فوصفها بالاستبداد الشرقي ومضى في حاله.

ولعل سطوة الفقهاء والسلطة والعوام جعلت ابن سينا وابن عربي يلجآن إلى لغة صعبة الفهم، كما أن الجابري لم يتطرق إلى الشعر والأدب بشكل عام ليصنفها في تحليله، يبدو أنه اعتبر الشعر والنثر امتدادا لنظام البيان، واهتم فقط بالأفكار، وبالتالي أين نضع نثر الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وكليلة ودمنة لابن المقفع وألف ليلة وليلة، وشعر المتنبي والمعري وأبي تمام وأبي نواس، وجميعها تنتمي لنظام البرهان في تقديري، بينما ينتمي شعر ونثر كل من جاء بعدهم إلى مرحلة رواد القصيدة الحرة إلى نظام البيان، بما في ذلك أحمد شوقي والجواهري والبردوني. بل إن الكثير من شعراء الحداثة ينتمون إلى نظام البيان على رأسهم نزار قباني وعبد الوهاب البياتي.