Atwasat

مشاهد ثقافية من زمن الكبار! (3-3)

سالم الهنداوي 2 يوم
سالم الهنداوي

.. في صبيحة افتتاح "الملتقى العربي الأول للإبداع الأدبي والفنّي" في الحادي والعشرين من أكتوبر 1988 بحضور وزير الثقافة المغربي آنذاك السيد "محمد بنعيسى" ورئيس المجلس البلدي لأغادير آنذاك السيد "إبراهيم راضي" والأمين العام للمجلس القومي للثقافة العربية آنذاك السيد "عمر الحامدي" توالت الكلمات نصب قضية مفصلية مُتجدّدة في الهُوية القومية للثقافة العربية باعتبارها الأساس البيئي لتنامي حركة الإبداع الأدبي والفنّي وأهمية تفاعلهما الكينوني في صميم العلاقات المجتمعية العربية، بدءاً من اللغة إلى التراث المُشترك، إلى الهُوية كمشروع لاستعادة الذات العربية المُنتجة للفنون والآداب.

تحت هذا الشعار الكبير "قضايا الإبداع والهُوية القومية" توزّعت المحاور العشرة على لجان الوفود لخلاصات تقصد سبيلاً واحداً يرمي إلى إنقاذ الثقافة العربية من رهانات الاستلاب والتغريب وسُلطة الأنظمة، وهو ما أشار إليه وزير الثقافة المغربي بقوله: "إنه لا يمكن لمشروع هادف للإبداع العربي أن يقوم في غياب الحرية وممارسة العمل الديمقراطي".. فيما شدّد رئيس المجلس البلدي لأغادير على أن "العمل الثقافي والإبداعي والفكري عامة يجب أن يسير بتوازٍ كامل مع العمل الاجتماعي والسياسي لتنمية الإنسان وتكوين النشء".. فكانتا كلمتين تركتا انطباعاً إيجابياً عن دولة "المغرب" في أذهان الضيوف العرب الذين عبّر كثير منهم عن أن خطاب ربط الإبداع بالحرية غير مألوف ويندر أن يصدر من مسؤولين سياسيين في الوطن العربي، وهو ما جعل كثيرين يقطعون وبدون مبالغة بأن الملتقى هو أكبر تجمُّع نقدي في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، إذ لم يحدث لا قبله ولا بعده أن اجتمع مثل هذا الحشد من كِبار المبدعين العرب في كل مجالات الإبداع الأدبي والفني في زمن ومكان واحد لتدارس إشكالية ناظمة هي "الهوية القومية" كعمق استراتيجي للإبداع.

ويؤكد البيان الختامي للملتقى على أن المشاركين أجمعوا على أهمية هذا اللقاء العربي الاستثنائي وأنه فعلاً الملتقى الأول الذي يجتمع فيه المبدعون العرب في مختلف المجالات الأدبية والفنية، يتحاورون ويصغي بعضهم إلى بعض، ويتعرّف كل مجال على خصوصيّات وصعوبات وآفاق تطوُّر المجال الآخر. وقد حيّا المشاركون في بيانهم الختامي مبادرة "المجلس القومي للثقافة العربية" بجمع مختلف حقول الإبداع العربي لأول مرة من أجل تفاعُل إيجابي حول قضايا المستقبل الثقافي.. وكان الملتقى قد تدارس في خمسة أيام متتالية ما يفوق عشرة محاور إبداعية ذات صلات بالعمل القومي العربي الذي رآه المجلس القومي ضرورياً في تلك المرحلة وعقد هذا الملتقى الكبير لأجله في ظل هوان وضعف أداء المؤسسات الثقافية الرسمية.

وكان احتضان قاعة العروض بقصر البلدية لافتاً لسُكّان المدينة الذين غمرونا بعطاياهم النبيلة الغامرة، وساهم حضور بعض نجوم السينما والدراما التلفزيونية أمثال عزّت العلايلي وفردوس عبد الحميد ومنى واصف في الدعاية للحدث، إذ تزاحم الجمهور في بهو قصر البلدية لأخذ الأوتوغرافات والتقاط الصور مع نجوم ألفوا إطلالتهم على شاشاتهم الصغيرة، فيما انتظمت في ساحة البريد المُقابلة لقصر البلدية حلقات نقاش جمعت المبدعين مع أبناء المدينة، وقد تفاجأ كثير من المبدعين العرب بوجود من يعرفهم ويعرف أعمالهم عن ظهر قلب في "أغادير" المدينة الصغيرة التي اعتقدوها الحاضرة البعيدة في أقاصي بلاد الأمازيغ.. ولم يكن غريباً أن تجد تلميذاً أو طالباً يذكر أحدهم بموقف نقدي أو بقصيدة أو رواية أو فيلم، أو يحمل كتاباً يناقش صاحبه في أفكاره ومواقفه. وقد ترك هذا التفاعل أثراً طيباً في نفوس المبدعين العرب إلى درجة أن الناقد اللبناني "إبراهيم العريس" كتب في تغطيته للحدث بمجلة "اليوم السابع" الباريسية: "في أغادير الكُل أحسَّ بنجوميته، من نجوم السينما إلى غُلاة النقاد البنيويين!"

دارت في محاور الملتقى نقاشات كثيرة في الأدب والفن جمعت رؤى مثقفي المشرق العربي ومغربه في وثيقة تاريخية هي الأهم في مسيرة الثقافة العربية المعاصرة، فكانت قضايا النقد والفلسفة من قيمة الفكر المُنتج للإبداع الأدبي والفنّي، وهي قيمة العقل العربي الذي تعرّض ويتعرّض لمحاولات الاستلاب والتغريب بإهماله والتقليل من أثر فعله الكينوني في المجتمع الإنساني.

كانت متابعتنا مهمّة لفاعليات الملتقى كما مشاركتنا في محاوره المختلفة ولقاءاتنا الجانبية في المقهى والحديقة وغُرف الأصدقاء التي أخذتنا في الأحاديث الطويلة حتى الصباح، وعلى الرغم من طغيان حدث نيل محفوظ لجائزة نوبل، الذي تزامن مع موعد الملتقى، إلّا أننا كُنّا نملك كامل الوقت في اللقاءات والحوارات الصحفية والتلفزيونية، ومن بينها كان حديثي للتلفزيون المغربي عن الحرية والإبداع من خلال ورقتي الليبية حول تجربة أدب الشباب من جيل السبعينيّات وفرسانها من كُتّاب القصّة القصيرة كمحمد المسلاتي وبشير زعبية وإبراهيم النجمي وسالم العبّار وعمر الككلي وصالح عبّاس وعبدالسلام شهاب وجمعة بوكليب ومحمد الزنتاني وفتحي نصيب، ومعظم هؤلاء الشباب كانوا ضحية مرحلة أيديولوجية كابرت على الثقافة والفكر والأدب الإنساني فدفعوا ثمن انفرادهم بدخول السجن وقضاء عشر سنوات من أعمارهم كانت هي نصّهم الحقيقي الذي أضاء في الظلام، فعن أي حرية وديمقراطية يتحدّث البعض والمثقّف في لبنان مثلاً ليس كمثله في ليبيا أو في الجزائر التي كانت حينها تمرُّ بعشريتها السوداء وفواجعها الأليمة.. فكان يكفيني في ذلك الحديث التلفزيوني أن أشيد بتجربة جيلي الإبداعية وجديد عطائهم الإبداعي ضمن كوكبة جريئة من المبدعين الشباب العرب، وألّا يسقط حقّهم الأدبي التاريخي من مسيرة الأدب العربي وليبيا كانت حينها في مقدّمة حركة التجديد الأدبي والفكري رُغم تحدّيات تلك المرحلة بحروبها وتحوِّلاتها الآيديولوجية ومعاركها الوهمية ضدّ اللاشيء!

يبقى السؤال الأهم الذي يعترينا في كُل مناسبة ثقافية أو سياسية "ماذا بعد؟".. و"أين نحن من كُل ذلك؟".. وسؤال النتيجة يقول: ماذا حقّقنا من مختلف مؤتمراتنا وملتقياتنا ومهرجاناتنا العربية على مدى عقود من النقاشات والمناكفات وإصابات العقل بالتأويل وخسارة معتركات فكرية مُختلفة كُنّا نعرف يقيناً أنها ستمضي في غربتها كما الأنهار، تترك الأثر الموجع في ذاكرتنا الجانحة دون فعل شيء لمستقبل حاولنا صُنعه برؤانا، لكنّه أبى طاعة أمانينا واستكبر؟!