Atwasat

من يحرق من؟

منصور بوشناف 2 يوم
منصور بوشناف

«من يحرق الكتب، يحرق البشر» يقول «فريدرش هاينه» ولكنني، وبإيمان قاطع، أقول «إن من يحرق الكتب، تحرقه الكتب ولو بعد حين» فالكتب ظلت قادرة على البعث من رمادها وإلقاء قتلتها إلى العدم. فكم من الطغاة حرقوا الكتب لتبعث الكتب وتحرقهم وتحفظهم في علب صغيرة بالمتاحف ليتلقوا البصاق واللعنات جيلا بعد جيل، وذلك ما حدث بين رواية الكاتب «مخائيل بولغاكوف، المعلم ومارغريتا» وستالين.

كان بولغاكوف قد بدأ بكتابة روايته تلك في العام الثامن والعشرين من القرن العشرين، بعد وفاة «لينين» وسيطرة «ستالين» وكان الكتاب السوفيت المنشقون والمطاردون قد بدأوا في حرق مخطوطات أعمالهم بعد حفظها بالذاكرة وترديدها كي لا تنسى وذلك خوفا من حملات التفتيش التي كان يقوم بها الأمن لمكاتب وبيوت أولئك الكتاب.

«بولغاكوف» الساخط والرافض لكل ما كان يجري في الاتحاد السوفيتي من قمع وقتل ورقابة مرعبة، كان قد كتب الكثير من المسرحيات والروايات الناقدة والساخرة من النظام الستاليني وغالبها منع من التدوال ليكتب في تلك الأجواء الخانقة تلك الرواية الفارقة «المعلم ومارغريتا» وهي أمثولة ساخرة من الحياة الأدبية والسياسية في ظل النظام الستاليني، ليلقي في لحظة خوف ويأس بمخطوطها للنار، وما إن انتهت النار من التهام «المعلم ومارغريتا» حتى بدأ بولغاكوف في كتابة رسالة غريبة إلى ستالين يطلب منه فيها التدخل لمنحه الإذن بمغادرة البلاد أو نفيه فلم يعد يحتمل تسلط الرقابة عليه ككاتب، وانتظر الرد من ستالين دون أن يأتي، فكتب رسالة ثانية بعد فترة وكرر الشكوى نفسها والطلب نفسه ولا رد أتى من ستالين.

في تلك الأثناء كان شاعر الثورة الروسية «ماياكوفسكي» قد أطلق على نفسه النار وانتحر، استنكارا لما كان يجري من قتل وحروب وقمع ستاليني، ليعيد بولغاكوف كتابة مخطوط جديد للمعلم ومارغريتا بعد فترة من حرق المخطوط الأول ويكتب رسالة أخرى لستالين بالطلب نفسه والشكوى، ولا رد من ستالين ليصل الأمر بالكاتب إلى حالة «ماياكوفسكي» ويضع فوهة المسدس في صدغه الأيسر وأصبعه على الزناد ليرن في تلك اللحظة الفارقة من حياة وسيرة «المعلم ومارغريتا» الهاتف ويرفع السماعة بولغاكوف دون أن يبعد أصبعه عن الزناد ليأتيه صوت ستالين هادئا ومحذرا «الرفيق بولغاكوف، لقد تلقيت رسالتك وأعبر لك عن أسفي عن كل ما جرى لك، وأنصحك بالانضمام إلى اتحاد الكتاب السوفيت لتنال عبره حقوقك، اذهب أيضا إلى مسرح موسكو هناك ستانسلافسكي اعمل معه».

لم يتحقق شيء من تلك الوعود الستالينية ولم تنشر «المعلم ومارغريتا» واعتبرت من المحروقات، حتى مات ستالين ونشرت منقوصة ومحرفة في طبعة سوفيتية ورغم ذلك ترجمت إلى الفرنسية العام 1966م ثم تمكنت أرملة بولغاكوف من تهريب نسخة كاملة من الرواية لتصدر العام 1973م في ترجمتها الفرنسية ثم الإنجليزية وتحقق انتشارا كبيرا ويعتبرها غالبية النقاد ثورة في الرواية وتدشينا لرواية ما بعد الحداثة في العالم وسخرية حارقة لستالين وللقمع الفكري والفني.

«المعلم ومارغريتا» أمثولة استلهمت مسرحية «فاوست للألماني جوته» وهبطت بالشيطان إلى موسكو لينشر الخراب ويهيمن على كل ما فيها، يقتل ويحرق بمسوخ غريبة، «قط يمشي على قدمين ويدخن السيجار ويشرب الفودكا ويحاجج أن المسيح خرافة ورجل مسخ يطير ويوجد في مكانين بعيدين عن بعضهما في اللحظة نفسها، أن الشيطان وستالين يتسابقان في التخريب والقتل والقمع بأدوات شيطانية ولكن «مارغريتا» تظهر كمنحة ربانية وسط كل هذا الخراب بالضبط كما كانت حبيبة وزوجة بولغاكوف التي أنقذت الكتاب من المحرقة وشهدت احتراق ستالين الذي بدأ من تلك الحقبة وما زال مستمرا، وما زالت الكتب تحرق من حرقها وتذروهم رمادا في عواصف التاريخ.

«من يحرق الكتب، يحرق البشر» قال «فريدرش هاينه» وأكرر رغم كل محارق الكتب «إن من يحرق الكتب، تحرقه الكتب ولو بعد حين». فالكتب، وعلى عكس الطغاة، ظلت عنقاء تنهض من رمادها وتحلق عبر العالم والعصور والحياة.