Atwasat

تشريح القنفذ ـ القذافي مفكرًا (11)

عمر الكدي الإثنين 30 أكتوبر 2023, 07:30 مساء
عمر الكدي

يُعرف عن القذافي أنه كثير القراءة ويحرص على اقتناء الكتب، وذات مرة اكتشفتُ أن أحد أعضاء اللجان الثورية له مهمة واحدة فقط، وهي زيارة معارض الكتاب في البلدان العربية ليشتري للقذافي ما يرغب من كتب، ويبدو أن خوف القذافي من تسميم الكتب دفعه إلى ذلك، ولكن من خلال ما كتب القذافي يمكننا معرفة ما استوعبه عقله من هذه القراءة، وهو في تقديري استيعاب انتقائي، فهو لا يقرأ لكي يعرف أكثر وإنما يقرأ لكي يسيطر ويحكم أكثر، وهذا واضح من كتابه الهزيل «الكتاب الأخضر»، ففي نحو 71 صفحة من الحجم الصغير حطم القذافي الديمقراطية الحديثة. ينتهي أولًا من أداة الحكم في ثلاث صفحات، لينهال بمعوله على المجلس النيابي ثم الدستور والاستفتاء، قبل أن يطرح البديل وهو المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية أو الديمقراطية المباشرة. لا يحتاج القذافي للكثير من الحجج لإقناع قرائه، بل يذهب مباشرة للهدف فيقول بجراءة «أداة الحكم هي المشكلة السياسية الأولى التي تواجه الجماعات البشرية»، وقبل أن نستوعب هذا الاستنتاج الذي ليس له مقدمات يقول «الأسرة يعود النزاع فيها أغلب الأحيان إلى هذه المشكلة». تجاوز القذافي بجراءة نادرة التراث الإنساني الذي كتبه فلاسفة كبار، مثل أفلاطون في كتابه «الجمهورية» وأرسطو في كتابه «السياسة»، ولا أعتقد أنه اطلع على كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي، وبالتأكيد اطلع على كتاب «الأمير» لميكيافلي، لأنه كتاب سيطرة وبالتأكيد اطلع على كتاب «طبائع الاستبداد» لعبدالرحمن الكواكبي، عندما كان يفكر في الانقلاب على النظام الملكي، وبعد أن يقضي على الصحافة ويحدد شريعة المجتمع ينتهي إلى الاستنتاج التالي: «ليس هناك أي تصور آخر لمجتمع ديمقراطي على الإطلاق إلا هذا التصور».

ثم انتقل إلى الفصل الثاني وحل المشكلة الاقتصادية حلًا نهائيًا، وفي هذا الفصل يتضح أن القذافي لم يقرأ شيئًا عن الماركسية، ولا حتى مر على فلسفة هيجل، وإنما اكتفى ببعض الملخصات من كتب الاشتراكيين الأوروبيين وعلى رأسهم سان سيمون وسيسموندي، وربما باكونين بل إنه لطش بعض المقولات من سان سيمون وحرفها، مثل شركاء لا أجراء التي كانت عند سان سيمون لا أجراء بل شركاء، وفي هذا الفصل يصبح الترقيع واضحًا لأنه حقق هدفه في الفصل الأول، وهو الاستيلاء على أداة الحكم واحتكارها مدى الحياة، وفي الفصل الثالث يصبح الترقيع أشد وضوحًا، مثل عدَّاء في الماراثون يكاد يصل إلى آخر السباق، وعندها تظهر المقولات المضحكة، مثل المرأة تحيض والرجل لا يحيض، والدجاجة تبيض والدينار لا يبيض، والطفل تربيه أمه، وغيرها.

إذا تقدم القذافي بهذا الكتاب للجنة تقييم في جامعة تحترم نفسها لتحصل على صفر، ولكن ليس هدفه الحصول على لقب جامعي، وإنما تصرف بذكاء ليحتكر السلطة، فالألقاب الجامعية تحصل عليها من جامعات كبيرة حول العالم، بعد أن أصبح الديكتاتور الوحيد الذي ترجم كتابه إلى معظم لغات الأرض، وعقدت حوله ندوات شارك فيها كبار المثقفين العرب والأوروبيين والأفارقة ومن آسيا وأمريكا اللاتينية، بل إنه أمر بنقش الكتاب الأخضر على رخام تولت البحرية الليبية رميه في بحار ومحيطات العالم، فإذا دمر العالم في أي حرب نووية سيجد من يبقى على قيد الحياة نبراسًا يهتدي به.

لم يكتف القذافي بذلك بل كتب حتى في الاستراتيجية، مثل كتاب «آراء جديدة في السوق والتعبئة ومبادئ الحرب»، بعد تخرجه مباشرة في الكلية العسكرية، وحاول نشره في صحيفة الحقيقة قبل انقلابه، ولكن محمد الهوني رمى المخطوطة في سلة القمامة، وعندها لم أعد أتعجب من جراءة القذافي الذي عند انقلابه كان يحمل رتبة ملازم أول في سلاح الإشارة، ولم يشارك في أي حرب وربما حتى في أي مناورة، ولم يستكمل دراسته العسكرية في كلية الأركان، مثل رفيقه عبدالسلام جلود الذي كان يلقب بالرائد ركن، وبعد أن اعتزل العمل أطلق عليه الناس لقب الرائد على ركن، فكيف امتلك القذافي الجراءة ليطرح آراء جديدة في نشاط معقد يحتاج إلى عقول جبارة مثل الاستراتيجي الصيني سن تزو صاحب كتاب «فن الحرب»، بل إن القذافي لم يجد غضاضة في الاعتراض على خطة الجيش المصري خلال حرب العبور، عندما طرح خطة بديلة ولم يجد الرئيس السادات بدًا من أن يتيح للقذافي الاجتماع بكبار ضباط الجيش المصري والسوري، وعندها طرح خطته بينما الفريق سعدالدين الشاذلي يتأمل هذا المخلوق الجريء، وهو يقول من الخطأ أن نطلق طلقة واحدة في سيناء، بل علينا أن ننزل القوات خلف خطوط العدو ونتجه مباشرة إلى فلسطين، بينما كبار الضباط الذين خاضوا عدة حروب يشرحون له كيف يمكن تأمين هذه القوات إذا نجحنا بقذفها خلف خطوط العدو، وكيف نستمر في الاتصال بها وكيف نمدها بالذخائر والتموين والسلاح وقطع الغيار، وطبعًا هذه المرة لم يجد القذافي من يصفق له ويهتف بالروح بالدم، فالدماء فعلًا كانت تسيل على الضفة الأخرى من قناة السويس وفي هضبة الجولان، والقادة وقتهم ضيق لسماع هذه الترهات التي أجبر الليبيون على سماعها قبل كل نشرة أخبار، فهدف القذافي تحقق وهو السيطرة المطلقة على السلطة دون الحاجة للخروج إلى انتخابات، وهو المرجع الأعلى لتفسير كتابه الذي حل محل الدستور، ويبدو أن من جاءوا بعده حفظوا هذا الدرس، ولهذا لم يشهد الليبيون انتخابات منذ 2014، وهذه المرة لن يحتاج عقيلة صالح والمشري وحفتر والدبيبة لكتابة كتاب آخر.

________________

مقالات سابقة في السلسلة
​- تشريح القنفذ (10) ـ القذافي والطلبة
تشريح القنفذ (9) ـ القذافي المراوغ
تشريح القنفذ (8) ـ رسول الصحراء
تشريح القنفذ (7) ـ الحاكم بأمره
تشريح القنفذ (6) ـ وجوه القذافي العديدة
تشريح القنفذ (5) ـ الانقلاب على الرفاق
تشريح القنفذ (4) ـ تحليل شخصية القذافي
تشريح القنفذ (3) ـ القذافي والقنفذ
تشريح القنفذ (2) ـ البدوي الأخير
تشريح القنفذ (1) ـ تحليل شخصية الطاغية