تحليل شخصية القذافي يشبه تشريح القنفذ عندما يموت متكوماً على شكل كرة من الأشواك. لا بُد أولاً أن نثبته على ظهره لننفذ إلى بطنه حيث لا توجد أشواك.
أفلاطون يصف الطاغية بالذئب، ربما لأنه كان ضحية لأحد طغاة عصره، الذي سجنه ثم باعه في سوق العبيد، ومن حسن حظه تعرف عليه أحد تلاميذه فاشتراه ونقله إلى أثينا، وكانت هذه التجربة القاسية دافعه الأول ليكتب كتاب الجمهورية، ولا يظهر الذئب في شخصية القذافي إلا عندما ينفرد بفرائسه من البنات اللواتي يضع يده على رؤوسهن عندما يزور مدارسهن أو كلياتهن، فيجدن أنفسهن في دهليز تحت غرفة نومه، وثمة من يشبِّه القذافي بالجمل الحقود الذي لا ينسى الإساءة، وحدثني الصديق المحامي جمعة عتيقة وقبله فوزي البشتي عن سبب سجنهما، فقالا إنهما عندما كانا في جامعة بنغازي تجتمع شلتهما في غرفة محمد خليل بالقسم الداخلي، وعندما يأتي القذافي لزيارة خليل رفيقه في مدرسة مصراتة الثانوية، يخفي خليل «الكارطة» ويفرش سجادة الصلاة، ويطلب من الجميع عدم القدوم طالما الملازم معمر موجود، إلا أن جمعة وفوزي عندما يجدان القذافي في الغرفة يقولان «أهو جاء العسيكري امتاع عبدالناصر» وينصرفان.
سُجِن فوزي البشتي بعد أن وقف في طابور المستقبلين بمطار عنتيبي بأوغندا، عندما كان يدرس اللغة العربية هناك، وعندما صافحه القذافي أمر بإعادته إلى ليبيا، ومن المطار إلى السجن حيث بقي ثمانية أشهر دون توجيه أي اتهام، أما جمعة فقد عاد من المنفى بعد صدور العفو العام عام 1988، وبعد سنة وجد نفسه في سجن بوسليم لمدة سبع سنوات، ومع ذلك فالقذافي أقرب إلى القنفذ فهو حيوان مؤذٍ ولا يمكن ملاطفته واستئناسه، ويخفي ضعفه بأشواكه الحادة التي تجعل الأفعى تفر منه، وهو حيوان غير شجاع، عندما يحس بالخطر ينطوي على نفسه ويبرز أشواكه، ولهذا عندما نحلل شخصيته علينا أن لا نستمع لما يقوله لأنه مخادع وكذاب، ولكن علينا اصطياد زلات لسانه فهي التي تكشف ما تحت الأشواك.
ذات مرة في أواخر الثمانينيات أتيح لي أن أحصل على السجل القومي، صندوق من الورق المقوى به مجلدات تحتوي على خطب القذافي منذ البيان الأول، بعد فترة اكتشفت أن نسخ السجل القومي تتغير كل سنة، وعندما تحريت الموضوع اكتشفت وجود لجنة مهمتها حذف ما قاله القذافي في إحدى السنوات المنصرمة، لأن الشخص الذي تحدث عنه القذافي لم يعد موجوداً، وهكذا اختفى كل ما قاله القذافي عن عمر المحيشي وبشير هوادي وآدم الحواز وموسى أحمد.
في النسخ القديمة قال القذافي إنه تعرف على عبدالسلام جلود في مركز شرطة سبها، بعد اعتقالهما خلال إحدى المظاهرات، وأنهما تغطيا ببطانية واحدة بسبب نقص البطاطين، ولكن هذه القصة تغيرت على لسان محمد بالقاسم الزوي، عندما قال في التلفزيون إن جلود كان عضواً في الخلية المدنية التي شكلها الزوي في سبها، وبعد أن دخل الكلية العسكرية سلمه للقذافي، بينما يقول جلود أنه لم يكن يرغب في الكلية العسكرية، ولكن القذافي أجبره على ذلك وتحايل على لجنة الفحص لقبول جلود بسبب مشاكل في أذنيه. القنفذ مرة أخرى يخفي ما يريد ويظهر ما يريد.
القنفذ حيوان جبان لا يثق في نفسه وعندما ينظر إلى نفسه سينظر نحو تلك المساحة الصغيرة الخالية من الأشواك، وإلى وجهه الصغير الذي يخفيه على الفور عند أول مواجهة، وينطبق عليه ما قاله أفلاطون عن الطاغية، «فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها. تجد الخواء فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء». على الطاغية، وفقاً لأفلاطون، أن يثير بعض الحروب أو يخلق عداوات جديدة، لكي يقنع شعبه أنه في خطر وأنه القائد.
أفلاطون كان يتحدث عن الطاغية اليوناني وبالتحديد ديوتسيوس طاغية سيراقوصة جنوب إيطاليا الذي عاصره في القرن الرابع قبل الميلاد، في حضارة تنتمي إلى البحر وتبجل العقل، ولم يختبر الطاغية البدوي الصحراوي الذي يزدري العقل والفن والحضارة، كما لم ينس أفلاطون طغيان العامة ويقصد بمفاهيم عصرنا الطاغية الديماغوغي، وكيف ينسى وديمقراطية أثينا حكمت على أستاذه سقراط بالإعدام عام 399 قبل الميلاد، وهذا النوع من الطغيان لا نزال نعيشه منذ 2011، وبعد أن جرب أفلاطون طغيان العامة الذي انتهى بحكم الموت على أستاذه، قرر الخروج من أثينا وزار مصر قبل أن يدعوه ديوتسيوس لزيارته، فانتهى في أصفاد العبودية. الغريب أن هذا الطاغية كان كاتباً تراجيدياً ووفقاً لديورانت كان واسع الثقافة وكان شاعراً. حتى الآن لا أعرف لماذا ينجذب الطغاة إلى الكتابة، ويحرصون على إحاطة أنفسهم بكبار الكتاب والشعراء والمثقفين، وكنت أستغرب كيف يهرب شاعر كبير من جحيم صدام حسين إلى نعيم معمر القذافي وحافظ الأسد، وأدركت أن الطاغية لا يولد طاغية وإنما الشعوب هي من تصنع الطغاة، سواء كانوا ألماناً أو طلياناً أو إسباناً أو يابانيين أو عرباً.
________________
- تشريح القنفذ ـ القذافي والقنفذ (3)
- تشريح القنفذ ـ البدوي الأخير (2)
- تشريح القنفذ ـ تحليل شخصية الطاغية (1)
تعليقات