Atwasat

الأجواء مكفهرة في المدينة السليبة

أحمد الفيتوري الثلاثاء 30 أبريل 2024, 01:16 مساء
أحمد الفيتوري

طرابلس مدينة مسالمة رهينة عقيد مهووس بالحروب، قرأت كتيبا صغيرا عن تاريخها، من الكتب التي منحني الصحفي الفرنسي، جاء فيه أن الإسبان احتلوا طرابلس مطلع القرن السادس عشر، وما دفعهم لذلك تقول الخرافة أن المدينة غير مسلحة البتة، فقد نزلها إسباني وأخبرهم بأنه اشترى بطيخة وتعب حتى يجد سكينا لأجل فتحها وتقطيعها.

وفي لحظاتي هذه أنام تحت إطلاقات لا تتوقف، من مضادات الطيران، التي بعضها وضع على أسطح عمارات سكنية قريبة، في حين أن غارات التحالف الدولي لا تتجاوز الغارة أو الاثنتين عند منتصف الليل.

التحالف جرى بناء على القرار 1973 الصادر في شهر مارس 2011م، من مجلس الأمن لحماية المدنيين، والصواريخ التي تطلق بالعشرات تستهدف المعسكرات ومقار حيوية مماثلة في تقدير قيادة التحالف، أما من جهتي فإن كل ما شاهدت مقار أمنية أو تابعة، وقد أكد لي بعض المواطنين ذلك.

ما استغربته مفارقة أن العقيد الليبي يذكره الإعلام الغربي دائما كرجل خطر مدجج بالسلاح السوفيتي، ولقد حول إمبراطورية الرمال/ ليبيا إلى غابة من الدبابات والمدرعات وحتى السلاح الكيماوي، وملأ السماء بالـ«ميغ» الروسية، لكن على الرغم من ذلك لم أرَ وأسمع إلا طلقات من مضادات الطيران في مواجهة عشرات من صواريخ «توما هوك».

الأجواء المكفهرة في شوارع طرابلس ليست لها علاقة بالطبيعة، كنت أغرق تحت وابل من الأمطار والصقيع يلفني، الأجواء مكفهرة لأن المدينة المأسورة في حال مقاومة، فتبدو كما وتر مشدود في كمان لم يعزف منذ زمان. وفي شوارع وسط المدينة قابلت مبانيَ إيطالية، بناها الإيطاليون فترة استعمار البلاد أكتوبر 1911م وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن ما شد انتباهي أن ليس من علامة أخرى تدل على هذه الفترة الاستعمارية.

بعض من قابلت من الليبيين يشير إلى أن إيطاليا لم تزرع في البلاد إلا الروح الفاشية، فالقذافي موسوليني محلي، بالإضافة إلى حفاظها على الأمية، إلى درجة أنها لم تنشر حتى لغتها، إيطاليا التي اعتبرت ليبيا الشاطيء الرابع، وأن استعمارها امتداد للفترة الرومانية. هذا ذكرني بأن المحقق قد وجه لي تهمة، أن بلادي التي استعمرت فزان منذ اندلاع الحرب العالمية وحتى العام 1955م، لم تنشر غير الجهل والمرض والفقر، لقد اعتبرني مسؤولة عن مرحلة، لم أولد فيها حتى كفكرة في ذهن أمي وأبي!.

طرابلس المكفهرة وسماؤها التي تمطرها بالماء والصقيع، بالإضافة إلى صواريخ التحالف الدولي ومضادات طيران القذافي، طرابلس هذه منحتني السكينة، في مفارقة جعلتني أدرك أن الخطر يجعل الحيوانات تنكمش وتستكين، خاصة عند عجزها عن إبداء أي رد فعل. كنت في غرفتي حيوانا، أرنبا هلعا يلوذ بالصمت والترقب كمجدافي قارب نجاة، قاربي القراءة، قراءة المتاح ما يمنحك الاطلاع على ما لم تنتبه له في غير هكذا حال، من الكتب التي منحني زميلي: «الحروب الصليبية- كما رآها العرب» ورواية «ليون الأفريقي»، للكاتب أمين معلوف الفرنسي اللبناني، من لم أهتم بمطالعته رغم شهرته في بلادي، لعل السبب أن موضوعاته واهتماماته بالعلاقة التاريخية بين الشرق والغرب لم تكن مسألة مهمة في تقديري آنذاك.

ليون في الرواية شخصية تاريخية كتبت كتاب «وصف أفريقيا»، ما سأطالع فور حصولي عليه، هذه الشخصية تنضح بما يروي عطشي للأمان، من لا يعرف الآخر لا يعرف أناه، وزد على ذلك أن الأندلس التي جرى امحاؤها من التاريخ الأوربي، الأندلس هذه كما جزء نير من نفوسنا استقطعناه، أما الكتاب الآخر فهو درس في أن لكل مسألة وجوها، ليس من العدل بل إساءة للنفس أن تنظر بعين واحدة.

طرابلس الساعة غارقة في عسف من لا يرى غير نفسه، قلت للسائق من شعرت أن قلبه مع بلاده، وإن كان سائقا في جهاز أمني مهمته قمع أهل البلاد للمحافظة على سلطة العقيد. مرة قال لي لو ترغبين في الهرب مستعد لتوصيلك إلى الحدود التونسية، التي تعج بالفارين من رجال النظام والمعارضين الخائفين من القبض عليهم وبالأجانب أيضا. شعرت بالعطف عليه لتعاطفه معي، وخلال جولة بالسوق اشتريت له هدية، ألعابا لأطفاله الخمسة، من ذكر أسماءهم وعمرهم بمحبة وخوف عليهم، مِنْ أوضاع البلاد التي تخوض

حربا لم تعرفها منذ الحرب العالمية الثانية. لقد غمرني عجاج هذه البلاد الغارقة في النسيان، ما تتلذذ به كما مازوخية، وفي هذا اليم غرقت لكنني على الرغم من ذلك أتنفس من هوائها، هواء البحر المتوسط ما نتشارك ويجعل منا شطريه. المفارقة أنها تعطي بظهرها للبحر، الذي كانت فيه أوائل القرن التاسع عشر ملكة، تسمح لمن ترضى عنه أن يمر.

في الكتاب الذي طالعت عن تاريخها، أنها في القرن التاسع عشر، الدافع لتأسيس البحرية الأميركية، التي ترجمُها اليوم بصواريخها، حتى اليوم نشيدها يردد اسمها: من قاعات مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس/ نحن نحارب معارك بلادنا/ في الجو والأرض والبحر».

في هذا اليم غمرني أيضا وجد صوفي قال رفيقي: إن الصحراء التي سياطها تجلد الجسد حتى نخاع العظم، تعرى النفس التي قرينها الموت فتشطح الروح، جدي شطح ذات مرة حين وقع في غيها، الآن أصابني العشق فبدت لي طرابلس كما الوجه المغمور لباريس، حيث نشأت لا أعرف أني لا أعرف.

ومن أثر ذلك تناولت (سي دي) من هدايا رفيقي، محتواه فلم «أسد الصحراء عمر المختار» ما شاهدته مرة ولم يعجبني، لكن شدني تماهي أنتوني كوين في شخصية عمر المختار، لم يكن في هذا الدور ممثلا لقد رأيته في منزع من يريد القول «أنا عمر المختار»، الحقيقة أننا لا نكون نحن إلا بمرآة الآخر، لهذا شكرت الأقدار التي طوحت بي في غمار هذه البلاد التي شعارها الساعة: الشعب يطالب بإسقاط النظام، ولهذا ترى نفسها في حرب تحرير ثانية، جرى شنق عمر المختار في الأولى، رغم ذلك تحقق استقلال البلاد، فهل يفوز أحفاده في الثانية؟...

أصوات طائرات التحالف الدولي تزن في الأجواء العليا لطرابلس، التي سماؤها في آخر الليل تغص بزنين ذباب منذ أيام، ما تعقبه انفجارات مدوية قادمة من أساطيل التحالف، انفجارات مدوية تزلزل أركان المدينة، حيث المعسكرات التي في أطرافها، وفي قلبها باب العزيزة المعسكر، ما هو مقر وبيت العقيد، الأخ القائد كما هو متداول عند أتباعه.

صواريخ توما هوك الأميركية تتابع كما جراد ليل يأكل الأخضر واليابس، وكلما دوى انفجار تطلق مضادات الطائرات إطلاقات لا تنتج غير أضواء متلاحقة، فتشبه حباحب الغابة التي تضيء داعية فصيلتها إلى التزاوج، كلما زادت الانفجارات زادت تهليلات شباب طرابلس من على سطوح البيوت، وتأويل تهليلاتهم: هل من مزيد، وأن نيران الصواريخ تتحول بردا وسلاما. ثمة ليال تصم فيها الآذان وتخلع القلوب، وكل واع تصيبه غيبوبة من هول الانفجارات وقوتها وديموموتها، أتقرفص في وضع جنيني أغطي رأسي بيدي وأغط في سكون الموت.