Atwasat

مجالس الأمس ومشترك الجرّاري

أمين مازن الأحد 17 مارس 2024, 08:01 مساء
أمين مازن

بداية من اليوم، ينضم إلى كتاب صحيفة «الوسط» وبوابتها الإلكترونية المداومين الأستاذ أمين مازن.
والأستاذ أمين مازن، لمن لا يعرفه، أحد أبرز رواد الحركة الثقافية الوطنية الليبية المعاصرة، خصوصا في مجال النقد الأدبي.

وهو من المثقفين الوطنيين الذين حافظوا، بدأب وإصرار منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، على كرامة المثقف الوطني الليبي في أحلك الظروف التي اكتنفت الحركة الثقافية الوطنية الليبية. فـ«دائماً كان في ليبيا رجال يفكرون ويجهرون بما يفكرون» مثلما قال في مداخلة له، أواسط السبعينيات، في ندوة ثقافية.

فمرحبا به أستاذاً وزميلاً.

أعترف، بثقة غير مصطنعة، أن استجابتي لدعوة مركز الجهاد، كما أحب أن أسميه، لإلقاء المحاضرة التي دعوتُها بمجالس الأمس، وإدلائي بما لدي من بعض مخزون تلك السنين البعيدة، حددتها في خمسينيات القرن الماضي، وولوجي باب العمل الديواني، وما استوجبه من الإصغاء لرجال تلك الأيام، وهم يغشَون المدينة ودوائرها حاملين هموم قومهم واحتياجات ذويهم، وبالضرورة مصارعة نظرائهم، فتراهم يبدون ما لديهم بلا تحفظ، وليس لذي الواجب العملي مثلي سوى حسن الإصغاء، والحذر من أي مشاركة يُفهم منها تجاوز واجبات الوظيفة المحددة في التدوين، وصوغ ما يقال، الأمر الذي طالما تنامى مردوده في سعة المدارك بفضل هذه النوعيات المختلفة من الرجال متقاربي الأعمار، متضاربي الرغبات والمصالح، ممن جاء بهم المجلس التشريعي الطرابلسي في هيئاته الأربع (عملت بثلاث منها، وراجعت أعمال واحدة)، إلى جانب متابعة جلسات مجلس النواب وتشريعي فزان وبرقة، ومحاضر الجمعية الوطنية واضعة الدستور، الأمر الذي منح لي الإلمام بالتكوينات الاجتماعية، وشيء عن الأنساب، فأثّرت على الأرجح في مستوى الأداء، ولا سيما عقب الانفتاح على أدبيات الفكر المادي في الأدب أولا، وبعض التحليلات المتنوعة ثانيا، التي قد لا أكون مُدعيا إن زعمت لها شيئا من الخصوصية، وبالذات في الموقف من الرموز التي استحقت الوصف بالقدوة، وما حفلت به تواريخها المكتوبة وسيَرُها المُعادة، سواء بما جاء به الوافدون من المهاجر، أو الذين أكملوا دراستهم ورجعوا، أو الكتب التي أخذت تملأ واجهات المكتبات حاملة أنضج وأحدث الدراسات، ولم نتردد يومئذ في اقتنائها، وبذل الجهد تلو الجهد لاستيعابها، والمغامرة بمناقشتها، وعدم التحسس من مرجعيتها، وتبعات أدلتها في تحديد الهوية الفكرية، وقد كان بعضها غير ذي ترحيب من الذين لا يطيقون مكابدة التحصيل، ويصعب عليهم الاعتراف بذلك، فلا يجدون ما يدارون به قصورهم في المحاججة أسهل من الخشية على القومية أو الدين، حيث كان الزمن يسمح بالحوار وتوكيد الحضور، وكانت بعض الصعوبات تدفع للإصرار على البقاء بواسطة الحضور، وكانت مواقف المجايلين مختلفة بين من رأى في تأكد الحرفية الهدف الأجدى، ومن اختار العمل السري ليكون الاصطدام مع السُلط في أكثر من عهد مآله.

وفيما كان موقف التجربة التقليدية أكثر واقعية، فإن ما بعد السبعينيات كان أكثر حدة، وكنت على الصعيد الشخصي في حدود المتاح دائب المشاركة المكتوبة والمُذاعة طيلة الستة عقود التي لم تخلُ -بفضل الله- من مقاربة من المقاربات، وكان الحضور فيها مرتكزا على مبدأ «ما لا يُدرك كله لا يُترك جُله»، فلم تخلُ حين نستبعد التواضع مرحلة من المراحل التي احتدم فيها النقاش، ووثّقت لها الصحف المكتوبة أو الكلمات المصورة أو الأحاديث المُذاعة مما تيسر، ولا سيما لتلك الأجيال التي ملأت حياتنا بمناقشة المسؤولين محاسبة وحضا على الأفضل، حتى أجملتها أو بعضها في الحديث الذي ارتبط بالرابع عشر من فبراير، وخصه العزيز الجرّاري بتقديم لن أتحرّج من الاعتراف بسروري به، ولن أدّعي التواضع فأستكثره، كيف وقد جاء ممن ارتادوا الفعائل الوطنية والقومية، والتجمعات العلنية والسرية من شباب تلك الأيام، أذكر منهم مع حفظ الألقاب محمد التبو، والمدني الصدّيق، ومحمد عبد المطلب التيتيوي، وبشير الصبي، وعبدالسلام أبوقيلة، وعلي عيسى، وعبد السلام ادقيمش، ومحمد أبو بكر أحمد، والقائمة تطول، ولها مكان آخر عسى الله أن يمن بالرجوع إليها وغيرها متأنيا، وبأقصى درجات التجرد والإيمان المطلق، إذ سيجد بها كل ما يدل على قوة المعاناة، ووضوح الجهد، والحض على التدبّر والإنصاف، والإسهام الجاد نحو ما يجعل الغد أكثر جمالا والنصر أقرب منالا، والمشترك قبل ذلك كله أكبر مساحة.