Atwasat

استجواب الذاكرة في «الغرفة 2011»

سالم العوكلي الثلاثاء 23 أبريل 2024, 10:10 مساء
سالم العوكلي

كنت دائما متوجساً من الكتابة في الفن المسرحي، وبما أني كنت أعتبر المسرح ضرورة لكل مجتمع مثلما مصادر المياه العذبة أو شبكات الكهرباء أو مؤسسات التعليم والتنمية وغيرها، فإن توجسي نابع من خوفي من التطفل عليه رغم حبي له لأنه فن مركب ولا يكفيك أن تمتلك مكتباً وأوراقا لتخوض في الكتابة المسرحية.

ذات يوم زارني الصديق المسرحي منصور سرقيوة في منزلي طالباً مني أن أكتب له مسرحية عن الكاتب خليفة الفاخري، وربما سبب هذا الطلب الذي فاجأني أنه اطلع على ورقة كتبتها لندوة حول أدب الفاخري، قراءة في كتابه «بيع الريح للمراكب»، ولا أخفي أني أحسست بخوف وارتباك أمام هذا الطلب الصعب. حاولت التملص من هذه المهمة لكن إلحاح الصديق منصور كان لا يتوقف.

ما دعاني لأن أجلس لقراءة كل ما كتب الفاخري وأحاول أن ألتقط خطاً درامياً لحكايته هو الذي عاش حياته في قلب الحكايا وتنفَّسَها، ورأيت انطلاقا من الورقة التي كتبتها أن أحيل تحولات مشروع الفاخري الإبداعي إلى حكاية تُروى فوق الخشبة بكل ما صاحبها من أحلام مجنحة وخيبات غدت فيما بعد مزمنة، لأطرح السؤال الأساسي: لماذا توقف خليفة الفاخري وهو في ذروة وهجه وعطائه عن الكتابة؟!، بل توقف حتى عن التواصل مع المشهد الليبي الثقافي أو حضور فعالياته أو المشاركة فيها

حين قرأت دراسة الشاعر والناقد خالد مطاوع عن الفاخري «نحو إدراك أدبي بديل» وعن التقاطه الجميل لتلك الغرفة «في فندق عتيق يطل على مدينة ضيقة الصدر» التي عاش فيها وجعلها اسماً لكتاب دوري يُعنى بالثقافة والفنون في ليبيا «الغرفة 211». تمنيت حينها لو أني كتبت المسرحية عن هذه الغرفة، وحطمتُ جدارها الرابع كما فعل مطاوع في قراءته الرائعة لمرسلات هذه الغرفة التي قارنها بغرفة فرجينا وولف، وربما كان الأمر سيختلف تماماً لو أني استدعيت شخصية فرجينيا لهذه الغرفة لتخوض حوارها الخاص مع الفاخري.

أخترت اسم (بائع الريح) للمسرحية التي قُدمت في مهرجان مسرحي بمدينة بنغازي ولمرة واحدة، وأذكر أني اقترحت في الهامش أن يكون صوت آلة الطباعة هو الخلفية لكل ما يحدث على الخشبة، يعلو ويخفت، يسرع ويبطيء، وأحيانا يبدو كصوت إطلاق الرصاص وفق ما تمليه المشاهد المسرحية، وحين اقترح المخرج مشهداً افتتاحياً، عبر لعبة الخيال والظل، يجسد دودة رخوة تتلوى تحت صوت القصف يعكس ولادة الفاخري أثناء مرور الحرب العالمية الثانية على مكان مولده في تخوم بنغازي، ووصْفَ الفاخري في إحدى قصصه لهذا الميلاد الصعب بأنه «الدودة الملعونة التي ألقاها الله ذات يوم في إحدى خِرَب بنغازي وتخلى عنها» ولأن «الدود الملعون لا يملك أجنحة» فقد حلم دائما أن يصبح طائراً ــ لكل ذلك تمنيت لو أن صوت الآلة الطابعة انبثق من قلب أصوات القصف والانفجارات ليصبح موسيقى المسرحية حتى نهايتها.

يلتفت الشاعر خالد مطاوع إلى استعارة هذا الصوت الذي كان ينبثق من تلك الغرفة وما يسببه من إزعاج للآخرين، ومن خلال هذه الغرفة يطرح مشروع هذا الكتاب الدوري الذي يبحث في تلك العلاقة الملتبسة بين الكاتب ومحيطه القريب، حيث يُمهد لهذا المشروع بأنه «محاولة لبدء موسم جديد لتلك الحكايات التي ضاعت ذات يوم في ضجيج التقاتل والتي أسكتها زحير الراقدين»، وليُبيّن بجلاء رمزية هذه الغرفة، يذكر في مقدمة الكتاب الأول أنه «لطالما كانت علاقة الكُتَّاب بمجتمعاتهم ملتبسة، مشوبة بسوء الفهم، وكثيرا ما نُظِر إليهم على أنهم مخلوقات مزعجة تعكر صفو المجتمع. لقد جسّد الأديب الراحل خليفة الفاخري هذا التنافر مطلع السبعينيّات في نصّ يُعَدّ من كلاسيكيات الأدب الليبي، «موسم الحكايات».

يصوّر الفاخري كاتبا منعزلا في غرفة تحمل الرقم 211، في فندق عتيق يطل على مدينة ضيقة الصدر. ينهمك الكاتب الذي يشعر بوحدة عميقة، ورغبة في الحديث إلى الآخرين في سرد الحكايات الشائقة التي تملأ ذاكرته وقلبه. وما إن يمضي في النقر على الآلة الكاتبة حتى يشرع نزلاء الغرف المجاورة في الشكوى من صوت حروفه المزعجة.

ينتهي الحال بالكاتب مطرودا من غرفة إلى غرفة، وهو ما يزال يعتقد أنه يكتب للآخرين». تعنون المقدمة بسؤال سيراود كل من يسمع بهذا الكتاب الدوري (لماذا الغرفة 211؟) ثم يُجاب عنه: «يحدثنا الكاتب خليفة الفاخري أن الغرفة 211 هي ملجأ في مطر الليالي الشتوية. فعندما تنفِض المقاهي روادها والمرابيع ضيوفها «لا يعود عليك سوى أن تعود إلى الغرفة 211» حيث الوحدة وتحشّد الكلمات النابضة في الصدر إلى أن تعتري الجسد شحنة تغربل المشاعر ومنها تنطلق الكتابة. ولكن الأمر ليس سهلا في الغرفة 211 ، فالكاتب الذي يحوّل وحشة الليل الماطر إلى موسم من الحكايات يرى نفسه بأنه مجرد «مخلوق» في غرفة لا تحتوي «سوى آلة كاتبة، وحزمة من الورق، ومنفضة سجائر، وبعض الأثاث القديم».

وهو وصف للذات يتجاوز حالة الشك والقلق المزمنة في المبدعين، ولن نكون مخطئين أذا ما حسبناه استيعابا لرفض بيئة الكاتب له ورغبته في الكتابة. قبل أن يكتب الفاخري نصه بحوالي خمسين عاما تأملت الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف ثيمة الغرفة في كتابها «غرفة تخص الفرد وحده...».

أساسا تنطلق فكرة هذا المشروع الرائد في الثقافة الليبية من الرغبة الملحة في مقاومة النسيان، وهي فكرة تبدأ من اسم الكتاب الدوري الذي يعيدنا إلى أحد أهم الناثرين في ليبيا الذين غمرهم ليثي النسيان، وإلى غرفته التي سيقتحم المشروع بابها وينبش فيها ويُخرج ما تحتويه من أسرار وأدلة تشير إلى الجاني والضحية في تلك العلاقة التاريخية المتوجسة بين الكاتب ومحيطه.

ولأنه مشروع ضد آفة النسيان، سيقترح العدد الثاني أو (ب 2023) عنوان الغلاف عن «الإبادة الجماعية ومستقبل تاريخنا». وفي هذه الحالة سيقفز إلى الذهن سؤال مفاده: ما علاقة هذا الشأن التاريخي بكتاب يُعرِّف نفسه بأنه «دوري يُعنَى بالثقافة والفنون في ليبيا»، وبالتأكيد راود هذا السؤال قلق القائمين عليه الذين يعرفون جيداً ما يفعلون، والمقدمة التي يكتبها فريق التحرير تعالج هذا السؤال بعمق، وتطرح أسئلة تشبه الأضواء المعلقة على طول نفق نحاول الخروج منه إلى أفق «إدراكي واسع»: «كيف يمكن أن يختلف حاضرنا، ومن ثم مستقبلنا باختلاف طرائق التأريخ للإبادة؟ بل يمكن المضي قدمًا إلى أسئلة المشترك الهُوَوِي: كيف يمكن أن نؤسِّس سردية تكون رافدًا لهوية المستقبل بإعادة النظر في الماضي الاستعماري؟ ما مستقبل الماضي إذن؟ كيف يمكن لنا المضي قدماً انطلاقا من مراجعة التاريخ وأدوات التأريخ؟».

وهي أسئلة لها ارتباط وثيق بالثقافة وحتى بالفنون التي يجب أن تستجوب الذاكرة الجمعية، وتنزع سؤال مصير الإنسان في هذه البقعة من هذا التاريخ المحتشد بمفارقاته وشحناته الوجودية والمُشْرَع على مصراعيه للقراءة والنقد.

وللغوص أكثر في هذه الأسئلة تستطرد المقدمة: «ومن هذا المنطلق، يبدأ العدد (ب) من مجلة الغرفة (211 ) بالدعوة إلى إعادة النظر إلى التاريخ الليبي، الاستعماري الإيطالي على وجه الخصوص، ليس على أنه مُعطًى مأخوذ من الرواة، بل بوصفه حدثاً مركبا داخلاً في أبستمولوجيا عامة تؤسِّس إلى نقد مزدوج، كالذي نادى به عبدالكبير الخطيبي. نقد لا يكتفي بتوظيف الأدوات الناقدة في عملية مراجعة الذات والتراث؛ بل إضافة إلى ذلك، وفي الوقت ذاته نقد يضع أدواته الناقدة موضع مساءلة دائمة، ويعيد البحث في الإشكالية عوضًا عن الاكتفاء بالتحقيق في الوثيقة التاريخية، وهو مسلك الدكتور علي عبداللطيف احميده، الذي نخصِّص له في هذا العدد، من الغرفة (211 ) ملفًّا عن كتابه «الإبادة الجماعية في ليبيا: الشَّر، تاريخ استعماري مخفي». الذي يسعدنا أن نقدم جزءًا منه للقاريء.

وإضافة إلى هذا الجزء الذي يقع ضمن ملف العدد، تُنتقى النصوص الأدبية المتصلة من خلال اختيار مقتطفات من سرديات أدبية ليبية تقتبس من التاريخ أو تستلهمه، إضافة إلى باب للتوثيق يشارك فيه مبدعون ليبيون بشهاداتهم أو قراءاتهم، وإقرارت من خلال بعض التراجم المتعلقة بالتاريخ الليبي، ليختم العدد بقراءة نقدية مهمة للشاعر والناقد خالد مطاوع تتمحور حول «أنسنة التاريخ»، تحت عنوان «الصعود من الشر: تأملات مِشكاليَّة في مستقبل تاريخنا». من خلالها يقدم نموذجاً للقراءة النقدية للتاريخ كما أشير في المقدمة، ومثلما يؤكد علم المنطق أن لكل مقدمات صحيحة نتائج يجب أن تكون صحيحة، فإن التاريخ ينطوي على مقدمات في الماضي تتبعها نتائج في المستقبل، وفي المنطق، تكون أي مناقشة صحيحة فقط إذا كانت نتيجتها متضمنة بشكل منطقي بواسطة مقدماتها المنطقية وكانت كل خطوة في المناقشة منطقية. ولكي يكون هذا المستقبل مرئياً ومقروءاً لابد من قشع الظلام أو الضباب وكشط الأورام عن مدونته، وتخليصه من هيمنة السرد الأحادي المتعالي، وتحويله إلى سردية إنسانية مقنعة، وملهمة لإشراق إنسانه في المستقبل. والمفارق أن ما أصبح ماضي ليبيا نراه الآن مستقبل شعب آخر شبيه في فلسطين، يصعد فيه «الشر» عبر سياسة الإبادة وتوطين الغزاة برعاية اليمين الفاشي من ورثة موسيليني وهتلر.

مشروع مؤسسة «آريتي» برمته محاولة لمقاومة النسيان، وإنعاش الجمال الكامن في الإنسان ومحيطه، واقتراح سردية يتفاعل فيها الماضي مع الحاضر والمستقبل، والتاريخ مع الثقافة والفنون، من أجل فهم هذا الكيان الأعمى الذي تنقل من تيه إلى تيه لأنه ينسى ولا يجيد التذكر.

ولهذا فإن الاقتباس لموريل روكايزر؛ الذي اختاره مطاوع ضمن اقتباسات عدة في دراسته، كان في مكانه تماماً: «ما هي الأشياء الثلاثة التي لا بد ألا تفعلها: أن تنسى. أن تبقى صامتاً. أن تقف بمفردك».