Atwasat

بيروت وشمس الدين والشعراء الغائبون!

سالم الهنداوي الخميس 02 مايو 2024, 04:47 مساء
سالم الهنداوي

لا مناص من الارتحال إلى "الشمس المُرّة" مع "أميرال الطيور" ذاك الذي كتب الشعر بمفردات التراث الغزير، واتخذ من منابع كربلاء ما يسقي الحجر النابت في الجنوب، وليكون الفتى الشاعر الجميل في بيروت مهد أشعاره الأولى منذ "قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا" و"أناديك يا ملكي وحبيبي"، إلى "منازل النرد" و"أميرال الطيور"..

هذه من عناوين مجاميع الصديق الشاعر اللبناني الكبير "محمد علي شمس الدين" الذي غادر دنيانا فجأة قبل عام، تاركاً بهجته العالية ونبله الباذخ بين الأصدقاء، ورصيداً شعرياً كبيراً غنيّاً بالتراث وبتجربة الحداثة التي أضاف لأبعادها وجمالياتها الكثير، نصوصاً ونقداً أثيرياً، ومفاهيم جريئة متجاوزة، جعلت منه الشاعر العربي الأهم بين أبناء جيله السبعيني الذين كتبوا الشعر الحديث وعاصروا ثوراته وأسهموا في حركة التجديد، نقداً ودراسة وإضافات معرفية، من خلال الصحف والمجلات الرائجة التي عملوا بها وأشرفوا على أبوابها الثقافية التي أسهمت بدورها في نشر وتناول الإبداعات الجديدة الجريئة في الشعر والقصة منذ سبعينيّات القرن الماضي في صحافة بيروت الطليعية، وبعدها صحافة قبرص ولندن وباريس، ومنهم أصدقاء وزملاء رافقتهم في صحافة بيروت والمهجر وعشتُ معهم أحلام تلك المرحلة المفصلية من حركة التجديد العربية، منهم الشعراء جاد الحاج وبول شاوول وعبّاس بيضون وأحمد فرحات ومحمد العبد الله وحسين نصر الله ونوري الجرّاح وشوقي بزيع وأحمد بزّون ويحيى جابر ويوسف بزّي وعماد العبد الله وأمجد ناصر وعبده وازن وآخرون.. إذ كان الاشتغال الثقافي حينها يحفل بمفردات النقد الحديث وتأثيرات الترجمة وبحفريات المعرفة بالتراث والحداثة، بوجهة الجمال في اتجاه الوعي بالتأسيس والتجاوز، فجاء النقد تنويرياً - في الشعر- بقصيدة التفعيلة مصاحباً لقصيدة النثر وبقصيدة البياض وبالنصّ المفتوح والكتابة، وبالسردية في تعريف القصة والرواية والسيرة، كما شملت اشتغالاتهم بأهمية التجديد في المسرح والفن التشكيلي والسينما والموسيقى، وكان "شمس الدين" من أهم الذين انفتحوا على كل الفنون واشتغل عليها نقداً لسنوات في مساحته الثقافية الأسبوعية بمجلة "الكفاح العربي" اللبنانية.

يقول الشاعر والناقد اللبناني "عبده وازن": عندما أصدر شمس الدين ديوانه الأول "قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا" عام 1974، بدا للفور صاحب صوت فريد متميِّز بغنائيته الريفية ووجدانيته ذات الطابع الوجودي، وتراجيديته أو فجائعيته الطالعة من أرض الجنوب ومعاناة أهله مآسي الحروب الإسرائيلية المتواصلة، والخراب الناجم عن القصف والنزوح المرير. لقي هذا الديوان ترحاباً في الأوساط الشعرية والنقدية العربية، ومثّل انطلاقة الشاعر في عالم القصيدة التفعيلية الجديدة، وكرّسه واحداً من أبرز شعراء "التيار الجنوبي" الذي ضمّ شعراء متميِّزين مثل شوقي بزيع وحسن العبد الله ومحمد العبد الله وجودت فخر الدين وإلياس لحود... وقد حمل هؤلاء لواء الالتزام "الإنسانوي" انطلاقاً من مأساة الجنوب وروح المقاومة الوطنية ومعاناة الطبقة البروليتارية، وقد نهلوا من ينبوع الفكر اليساري بحرية تامة.

بعد هذا الديوان يضيف "عبده وازن" راح شمس الدين يوسِّع أفقه الشعري، مرتكزاً أولاً على التراث الفجيعي الكربلائي الذي نشأ عليه طفلاً وفتى، والذي زرع بذوره في روحه جدّه الشيخ عبد الحسين المرتل، ومنفتحاً ثانياً على الشعريات العالمية الاشتراكية أولاً ثم الحداثوية في مفاهيمها الواسعة. وقد نجح كل النجاح في الدمج بين هاتين النزعتين المختلفتين ظاهراً وجوهراً، وآخى بينهما وسكبهما في قصائد متفردة بجوها ومعجمها ورموزها.

ظل شمس الدين حتى آخر ما كتب، شاعراً تراثياً في المفهوم المتعدِّد للتراث، وحداثياً، حافظ على النظام التفعيلي وأصدائه الأولى الكلاسيكية والرومنطيقية والرمزية، وانفتح على تجليات العصر الحداثي العالمي في الشعر المستقبلي والسوريالي والتجريدي.. لكنه ظل أبداً الشاعر الجنوبي، التراجيدي، الغنائي الصوت، ولعل انتماءه الجنوبي كان يتخطى كل الظواهر والتيارات، ليتحوّل إلى انتماء وجودي عميق، وإلى حال من الكينونة التي تضرب جذورها في أعماق الذات. ولم يكن الجنوب مقولة جغرافية وسياسية ونضالية فقط، بل هو يملك في شعره بعداً تكوينياً، فالشاعر ابن التراب والشجر والماء والطيور والسماء والقمر، وابن الحقول والسنابل والألوان وهبوب النسائم وزمجرة العواصف، وقد مثلت مثل هذه المفردات الجنوبية معجمه الشعري الأساسي، الذي كان يتّسع دوماً لمفردات أخرى ومختلفة جداً، طالعة من قلب المدينة والعصر.

كل هذه الالتباسات في الهوية والانتماء، لم تنل البتة من شعرية محمد علي شمس الدين، ولم تؤثر في نزعته العربية، تراثاً ومعاصرة، فهو ابن اللغة العربية وسليل الخزين العربي الذي استعان برموزه وأسمائه الكبيرة في سياق ما يسمى "قصيدة القناع"، فاستحضر المتنبي وامرأ القيس وقيس بن الملوح وليلاه، والمعرّي وديك الجن، مثلما استحضر الحلاج والحسين والمسيح وجبران.
غاب شاعر الغنائية التراجيدية، صاحب القصائد العالية وهو في قمّة عطائه الإبداعي والنقدي، لتنطفيء المنابر التي اعتلاها صادحاً بصوته المميّز بعذب الكلمات وجرأتها.. وغابت بعده العناوين في قصائد من رحلوا قبله ومن رحلوا بعده، وقد تركوا بيروت في وحشة المساء تنشد غربتها على أرصفة باردة كُنّا لها بدفء حكاياتنا في مقاهي شارع الحمرا وكورنيش المزرعة.. فقد غاب الأصدقاء وظلّت أحلامهم كما رواياتهم أثر الرماد في ضوء المساء.. غاب شمس الدين كما غاب حسين نصر الله غريباً في موسكو ووحيداً بلا أشعار، وكما غاب محمد العبد الله في بيروت التي رشق ظهيرتها بقصيدته النادمة "بعد ظهر نبيذ أحمر، بعد ظهر خطأ كبير" ليعود شعراء المهجر في أغسطس شاهرين عطشهم القديم على أرصفة مقاهي الذكريات، يستعيدون القصائد الهاربة في زمن الحرب.. عاد بول شاوول ونضال الأشقر من نيقوسيا إلى مسرح بيروت ينفضان الغُبار عن ركحه العريق، فيما ظل الشاعر يحيى جابر جريئاً على مسرح "ثياترو ڤيردان" في مسرحياته الميلودرامية الساخرة، من "بيروت طريق الجديدة" إلى "بيروت فوق الشجرة" إلى "مجدرة حمرا" إلى "شو منلبس" بإيقاع الهذيان المُر.. كما تثاقف مسرح "زياد رحباني" بواقعه السياسي على ركح العبث وقد ولّى زمن "شوشو" الذي كان في زمن بيروت يضيء أعمدة مسرح "البيكاديللي" بأعمال نقولا وسليم النقاش، وأديب إسحاق، و يوسف خياط، وجورج دخول، وسليمان القرداحي، ومنه الغنائي الملحمي بأصوات الكِبار "فيروز ونصري شمس الدين ووديع الصافي وهدى حدّاد"، والسياسي التراجيدي كمسرحية "الديكتاتور" للراحل أنطوان كرباج.

لا نعش لبيروت التي حملت نعوش مثقّفيها، أدباء ومفكِّرين وكُتّابا صحفيين وفنّانين وإعلاميين، وكانت الشاهدة بصخرتها "الروشة" بطلّاتها على صحافة بيروت والحرب الطويلة التي كتبت مرثية المكان في قصائد تولد من جديد حتى بعد رحيل أصحابها.

هو القلب...أم حفنة من دُخان القرى؟ قال لي صاحبي:/ نشأنا معاً/ وضحكنا معاً/ وشربنا معاً وَحْلَ أقدامنا/ فهل أنت مثلي غداً ميّت في المدينة؟/ قلتُ: هذا اتجاهي/ من النهر حتى احتراقاته في الخليجْ/ جنوباً/ جنوباً/ جنوباً/ وكل الجهات التي حدّدتني... غَدتْ واحدة./ قال لي:/ أنت لا تعرف الأرض والآخرين؟/ قلتُ: أمي نهتني عن الموت إلّا على صدرها/ قال: خذ رقم قبري.../ وغابْ/ ولمّا التقينا/ بكينا معاً فوق صدر التراب»..

إنها أصعب مراثي شمس الدين الراحل إلى "الشمس المُرّة"!