Atwasat

(واحة السلام) في قلب الحرائق

سالم العوكلي الثلاثاء 14 مايو 2024, 03:06 مساء
سالم العوكلي

«واحة السلام» أو «نيف شالوم» بالعبرية، هي قرية شبه متخيلة وجدت فعلاً على الأرض، تعود فكرتها إلى العام 1970 حين فكر القس العبراني برونو هوسار في بنائها على جزء من أرض اللطرون عند منتصف الطريق العام بين القدس وتل أبيب، وأراد منها أن تكون نموذجا قابلا للتوسع لإمكانية التعايش بين العرب؛ مسلمين ومسيحيين، وبين اليهود، واستطاع أن يخلق نوعاً من التآلف بين هذه المذاهب والأعراق التي أصبحت أمراً واقعاً.

بدأت بخمسين عائلة وأخذت في التوسع ببطء شديد رغم ما يحيط بها من صراعات سياسية وخطابات عنصرية، و«وفقا لهذه الفكرة فقد جرت تربية الأجيال الأولى من سكان القرية على ثقافة التسامح والتعايش، وجرى تأسيس روضة أطفال ومدرسة يتعلم فيها الأطفال الإسرائيليون والفلسطينيون جنبا إلى جنب. ويشرف على الدروس الداعية للتسامح التي تتبنى اللغتين العربية والعبرية في المدرسة والروضة معلمة فلسطينية وأخرى إسرائيلية».

العام 1997 أنشئت «مدرسة السلام» بطرق تدريس وورش عمل ومناهج تسعى لوقف الصراع بين الشعبين والتأكيد على أن التعايش ممكن وهو السبيل إلى سعادة كل من على هذه الأرض، كما قامت مجموعة متطوعة من فلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، وإسرائيليين سنة 2001 بإنشاء ما سمي «بيت الهدوء» أو بيت السكينة؛ الذي يصفه الكاتب حسيب شحادة كما يلي «يقع بيت السكينة على قمة التلة يقع بيت السكينة «بيت دوميّه» للتأمّل والتفكّر والصلاة، إنه مكان قداسة للجميع على الرغم من الاختلافات العقائدية والثقافية".

وهناك بناء آخرُ في طور التشييد سيضمّ مكانا للاجتماعات والصلوات والدراسة والرياضة الروحية. وهذا المركز عبارة عن إطار للتأمل الروحي بصدد قضايا في صميم الصراع الشرق أوسطي والبحث من أجل إيجاد المخارج والحلول.

يحاول المركز العمل على ترجيح كفّة الموارد الروحية المتوافرة في تقاليدنا الثقافية والدينية بغية تعزيز نجاعة «واحة السلام» كمجمّع سكاني يمارس عملا تربويا من أجل السلام»1. كما يلقي موقع دويتشه فيله نظرة على هذه الواحة ونظام الإدارة فيها، فيذكر أن الإشراف على منظومة التعليم متقاسمة فيها، وأن منصب عمدة القرية تسلمه تارة فلسطيني وتارة إسرائيلي، وأن معبداً على شكل بيضة بُني فيها ليؤمه الجميع من أجل التأمل وممارسة الرياضة الروحية، كما أُنشيء بيت خاص لاستقبال الضيوف من خارج القرية تُبث فيه أفلام توضح الفكرة من إنشاء هذا المجتمع الصغير وما يقبع خلفها من رؤى مستقبلية.

يقول إلداد جوفي، رئيس المجلس البلدي للقرية: «أنا هنا ليس لأني متفائل. أنا هنا لأنني أردت أن أكون جزءاً من شيء أكبر مني، جزءاً من الأمل»، ويذكر أنه من بين الناس الذي جاؤوا للعيش في هذه القرية، اليهودية السويسرية إيفي غوغينهايم التي تعرفت في القرية كذلك على زوجها الفلسطيني عمدة القرية.

أما د. إيتان برونشتاين، مؤسس «جمعية زوخروت» المعنية بالشبيبة داخل القرية، يقول في حوار أجرته معه «الجزيرة نت»، عن فكرة ودوافع هذه الجمعية: «بسبب تأييدنا لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين نُحرم من مصادر التمويل الإسرائيلية التي تزود الجمعيات الكثيرة الأخرى بالميزانيات، لذا فإننا نتلقى مساعدات من الخارج فقط. نتطلع إلى تعريف الإسرائيليين بالنكبة لأننا ندرك أن عدم المعرفة تفضي إلى انعدام المسؤولية، ونحن نؤمن إيمانا قاطعا بأن اعتراف الطرف الأول بمسؤوليته عن معاناة الطرف الآخر ضرورة حتمية لتحقيق السلام والمصالحة.. نحن نسعى لتحقيق الهدف البعيد المدى المتمثل بإقامة دولة ديمقراطية واحدة تتسع للعرب وللاجئين ولليهود الذين سيكونون أقلية متساوية الحقوق كسائر الدول المتحضرة بخلاف دولتنا العنصرية.

نحن نؤمن بأن الصهيونية تشكل خطرا لا على العرب والبيئة المحيطة فحسب، بل على اليهود أنفسهم، ولذا ينبغي أن تزول من هذا العالم، ومن دون ذلك لن يتحقق السلام على الأرض لأن العرب لن يرضوا به ولا اليهود النزهاء». وعن سؤال مفاده: وماذا تقول لمعارضي حق العودة من الإسرائيليين الذين يحرصون على «التوازن الديمغرافي» خلال الجدل بينك وبينهم؟ . يجيب بونشتاين: إن كل من يستخدم هذا المصطلح يعني أنه صاحب توجهات عنصرية، وبدلاً من هذه الأفكار المريضة نحن نطرح فكرة الدولة الديمقراطية، والتاريخ أثبت فيما مضى أن اليهود عاشوا فترات ذهبية في ظل أنظمة حكم عربية.

شاهدتُ من فترة قريبة شريطاً وثائقيا عن هذه القرية وتحولاتها، وعن مدى صمود رؤيتها في وجه الانتهاكات الصهيونية اليومية للحق الفلسطيني، وعبر استطلاع لآراء بعض سكانها، تحدث بعض العرب على أنه كانت تترسخ علاقات صداقة حميمية بين الفتية والشبان من كل الطوائف في مدارسها وداخل مؤسساتها، لكن بمجرد أن يذهب صديق يهودي لأداء الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي تظهر حالة من التوجس باعتبار أنه سيكون معرضا في أي لحظة لقتل فلسطينيين، وهذا ما تحاول القرية الداعية للسلام النأي عنه، ولا أعرف ما يحدث في داخلها الآن أثناء حرب الإبادة التي تجرى في غزة والضفة.

لكن عالمة لغويات إسرائيلية، دكتورة نوريت بيليد-إلحنان، ستختصر الأمر بوصفها لعملية طوفان الأقصى بقولها «لقد رأينا هذه النظرة الآن» بعد أن اقتبست عبارة لجان بول سارتر «فجأة، وبعد سنوات عديدة رزح خلالها المقهور تحت أقدامك الحديدية، لاحت له الفرصة ليرفع عينيه، فأي نظرة تتوقع أن تراها فيهما؟» ضمن مشاركتها عشية هجوم السابع من أكتوبر في مجموع دردشة على الواتساب بين أكاديميين إسرائيليين، وتضيف «لقد رأينا تواً هذه النظرة».

د. نوريت التي منذ 27 سنة قضت ابنتها في تفجير انتحاري بالقدس وعلقت عليه وقتها بقولها لجريدة لوس أنجلوس تايمز «هذا ما حصدته دولتي إسرائيل»، وستعيد كل ما يحدث من عنف، في مقابلة أجراها معها الصحفي الأسترالي روبرت مارتن، إلى: «تلقين الأطفال الإسرائيليين بعض الأفكار الرئيسية، وهي عملية مبكرة جدا تبدأ في سن الثالثة، ويمكن تلخيصها في عدة «مبادئ»، إن جاز للمبادئ أن تدعو للقتل والعنصرية أول هذه المبادئ هو ما تسميه دكتورة «نوريت» فلسفة الـ«Othering، ولا يوجد لتلك اللفظة مقابل في العربية، ولكنها اسم الفعل من Other» الإنجليزية أو «آخر»، والمقصود هو تحويل الفلسطينيين في عيون الأطفال الإسرائيليين إلى مجرد «آخر»؛ «آخر» مُجهّل، بلا ملامح أو أصل أو دوافع أو طموحات، ما يفسر التعصب الجنوني والعنصرية الشيطانية تجاه الفلسطينيين لاحقا بوصفها «حقا شرعيا... بناء على ما سبق، لا يُوصف الفلسطينيون إلا بكونهم «مشكلة»، وهم لا يختلفون في ذلك عن أي فئة احتقرها الغرب عبر تاريخه.

في الواقع، هناك تماثل عجيب عابر للأزمان في استخدام هذه اللفظة تحديدا. فـ «الهنود الحُمر» كما يفضل الغرب تسميتهم، أو السكان الأصليون لأميركا، وُصفوا بأنهم «مشكلة»، والسود وُصفوا بأنهم «مشكلة»، وصدِّق أو لا تُصدِّق؛ اليهود أيضا وُصفوا بأنهم «مشكلة»، قبل أن يعبر بعضهم البحر المتوسط، ويكتشف أن «المشكلات» يمكنها أن تعاني من المشكلات بدورها»2.

تنتقد نوريت من منطلق اختصاصها اللغة التي تستخدمها مناهج التعليم الإسرائيلية أو تحث على الكراهية والعنف مثلما تحاول قرية واحة السلام أن تطرح مناهج بديلة تحث على التسامح والتعايش، غير أن هذه القرية لا تتلقى أي دعم من الحكومة التي في الوقت نفسه تدعم بالمليارات سنوياً مجموعات الحريديين المتطرفة ومناهج مدارسهم الحاثة على قتل العرب تحت شعار «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت»، والمتهم متعصبوهم بأعمال تخريبية في القرية.

«شهدت قرية واحة السلام في القدس محاولة لإحراق مبنى المكتبة، وجاء هذا الاعتداء بعد أسبوع من إضرام النار في بناية مدرسة السلام» (قناة مساواة الفضائية).

واحة السلام يوتوبيا صغيرة تنمو ببطء شديد في وجه ديستوبيا شاسعة تسردها أتونات الحرب في الكنيست والموساد ووزارة الدفاع والحكومات المتطرفة والقوى الداعمة للصهيونية دون شروط. وتبدو شبيهة بحلم حلمه يوما المهاتما غاندي في الشرق، ومات هذا الحلم بمقتله عن طريق عنصري مكوبس لا يحب الأحلام. لم يلهم غاندي أحداً في هذا القرن الجديد، في الوقت الذي ما ظل يلهم ساسة الكيان الصهيوني والدول الداعمة له نماذجُ مثل هتلر وموسوليني وغيرهما ممن لا يطربون سوى لصوت القصف وأنين الإبادة الجماعية.

سبق للمفكر الفلسطيني، إدوارد سعيد، أن أسس مع صديقه الموسيقي اليهودي، دانيال بارنبويم، أوركسترا من عازفين محترفين من فلسطين وإسرائيل ولبنان وسورية والأردن ومصر وإيران، لكنها ظلت واحة موسيقية وسط محيط من رمال الكراهية الزاحفة التي يحركها ساسة هذا الكيان، والجميع يسمع بالمجازر وبالتشريعات العنصرية وبالحواجز والأسوار، وقلة ممن يسمعون بقرية واحة السلام أو أوركسترا السلام لأن ثمة آلافا من الأشرار النافذين يديرون بحنكة آلات الكراهية والحروب، في مقابل مليارات ممن يتمنون أن يعيشوا في سلام، أكثر من نصفهم أمهات وأطفال، لكن هذه القلة من الأشرار هي من تنتصر، للأسف، لأنها تسيطر على غرفة التحكم في هذا العالم.


1ـ حسيب شحادة الحوار المتمدن-العدد: 1940 – 8 يونيو 2007.
2ـ لؤي فوزي. موقع الجزيرة نت .11 ديسمبر 2023.