Atwasat

طعام وكتاب وموسيقى

صالح الحاراتي الثلاثاء 14 مايو 2024, 07:37 مساء
صالح الحاراتي

جُبِل الكون على التنوع، ولا شيء أحاديًّا في هذه الحياة، وغالبًا ما تُفهم مظاهر التنوع أنه البيولوجي من حيث التنوع الكبير للنباتات وللحيوانات وللكائنات الحية عمومًا، ولكنه يشتمل كذلك على الاختلافات الجينية في كل نوع من الكائنات والمخلوقات وكذلك تنوع النظم البيئية، كما يشمل أيضًا التنوع الثقافي الذي يشكل مصدر ثراء لأي مجتمع، حيث يخلق تلاقح الأفكار نوعًا من التميز، ويوسع نطاق الخيارات المتاحة لكل فرد لبلوغ حياة فكرية وعاطفية وأخلاقية وروحية مستقرة.

يبرز التنوع في المشهد السياسي في أوضح صورة، حيث نرى جميع التوجهات والعقائد والأيديولوجيات وتفريعاتها وكل أنماط الشخصيات البشرية، فالتنوع والتعددية «أمر بديهي» في الحياة بشكل عام، ولذلك لا ننتبه لهذه الحقيقة نظرًا لشيوعها وتجليها في كل مناشط الإنسان، وبسبب غفلة التكرار والألفة تتسرب الأحادية المنغلقة إلى العقول لتكون سببًا مهمًّا لجعل الحياة قاسية ومملة.

وللتأكيد على أن التنوع محور أساسي في الحياة وهو من البديهيات التي تتجلى في كل شيء في عالم المادة أو عالم الأفكار، ولأجل متابعة التنوع أستحضر هنا كلًّا من الكتاب، والطعام، والموسيقى.. لنرى التنوع في هذا الثالوث ومدى الحاجة الإنسانية لهذا التنوع، وغير خفي لنلاحظ أن كل مكون يساند الآخر حتى تستمر الحياة ويحدث الرضا لدى الإنسان السوي، فكما يقال؛ الكتاب غذاء للعقل والطعام غذاء للجسم والموسيقى غذاء للروح.

بهذه المقدمة التي تبدو أنها تذهب إلى إعادة اكتشاف البديهيات كما يقول أحد الأصدقاء.. لا أظن أن هناك إنسانًا يشكك في أهمية هذا الثالوث من التنوع، بل هناك تشابه وتقارب بين الفوائد والخصائص لكل مسمى..

في الطعام مثلًا، ورغم الاختلاف والتنوع ولكن كل الوجبات لها فائدتها وطعمها وحلاوتها ولها «وقتها»، كذلك الكتب فهي تتنوع من حيث مجالاتها ومحتواها وكل منها له فائدة في مرحلة معينة وعمر مناسب، ولنا أن نقارن كمثال بين كتاب «نقد العقل العربي» للجابري مثلًا ومغامرات طرزان.. أما عن كيفية توصيل المحتوى للمستفيد، فذلك يعتمد على المكونات وطريقة الإعداد والتقديم بالنسبة لوجبات الطعام، وكذلك الأمر من ناحية الكتب فإن توصيل المحتوى يعتمد على سلاسة اللغة وتماسك النص إن كان نصًّا نثرًا أو شعرًا أو قصة أو رواية أو متنًا فكريًّا فلسفيًّا.. إضافة إلى أهمية طريقة التقديم أو المظهر الخارجي وشكل المنتج، فالكتاب وإخراجه ابتداء من لوحة الغلاف ونوع الورق والخط إلخ؛ ثم تأتي مرحلة التناول والتعامل مع الكتاب وقراءته، فقد يعجبك محتواه وتلتهمه دفعة واحدة وقد تتأنى وتتناوله على مراحل، كذلك الطعام قد يعجبك فتستمتع به وتداوم على طلبه وقد لا يعجبك فيخرج من قائمة طعامك المفضل، وكما أن القراءة غذاء للعقل، مثلها مثل الطعام كغذاء للجسم، فإن الإنسان لا يطيق أن يأكل صنفًا واحدًا فقط من الطعام ويحتاج جسده إلى «التنوع» في الطعام، كذلك يحتاج العقل النابه إلى «التنوع» في موضوعات القراءة المختلفة.. فالتنوع عامل مشترك أساسي، فالإنسان لا يطيق تأطيره فكريًّا داخل قالب واحد ولا نوعية غذاء واحدة.

ثم نأتي للموسيقى، فهي غذاء الروح كما يقال، وتتنوع أيضًا في أنماطها من الكلاسيكية إلى الحديثة ومن الشعبي إلى العالمي؛ وكل بيئة لها تفردها وموسيقاها وذوقها، ولا بأس أن يجمع الإنسان سماع معظم الأجناس الموسيقية وإن كان يحبذ نوعًا معينًا لأجل إثراء ذائقته.

وهناك دراسات في علم النفس لدراسة علاقة الإنسان بالموسيقى، والأسباب وراء تفضيل بعضها أو النفور من غيرها، والعوامل التي تلعب أدوارًا في تحديد الاختيارات، وطرق تأثيرها على عاطفة الإنسان من جهة وحالته النفسية من جهةٍ أخرى، وقد تبين أن الناس يكوِّنون تصورًا راسخًا عن أنفسهم وشخصياتهم عندما يتحدثون مع الآخرين عن أفضل كتاب أو طعام أو أفضل أغنيةٍ أو قطعةٍ موسيقية لديهم.

الشاهد ما جمعت هذا الثالوث إلا محاولة عابرة للتأكيد على التنوع والاختلاف في كينونة واحدة هي الإنسان لأجل التقريب وليس لتفكيك منظومة الحياة ونبذ المختلف، فالتجربة الإنسانية تؤكد لنا أنه من الصعب، وربما المستحيل، أن يحدث تأطير الناس داخل فهم وحيد لأي منهج؛ ولذا لا مفر من قبول الآخر المختلف.