Atwasat

الاستشراق: تراث الشرق في فكر الغرب! (2-5)

سالم الهنداوي الخميس 16 مايو 2024, 01:53 مساء
سالم الهنداوي

اختلفت المصادر بوجهاتها المتعدّدة حول ولادة "الاستشراق" وتناميه حتى أصبح عِلماً خالصاً قائماً على البحث العلمي بالمعاهد والجامعات الغربية، ولينتقل -هذا العِلم- بعد ذلك ليُدرّس في جامعاتنا العربية، ولنيل الرسالة الدقيقة في مجالاته يذهب "العقل العربي" طواعية إلى الغرب فيستقبلونه بترحاب لافت ويهتمّون بأمر إقامته وعلاقاته الجديدة بين أساتذة الاستشراق لاستيعاب خصائص بحثه الجديدة والاستفادة منها في مقابل "شهادة" ينالها من الغرب على دعمه -غير المقصود- في تحقيق جانب من أهداف "الاستشراق"!

لقد ذهب "العقل العربي" إلى الغرب قبل عقود لنيل الشهائد الدقيقة في علم الاستشراق الذي بدا مغرياً للكثير من دارسينا الذين أبهرتهم اكتشافات المستشرقين وأبحاثهم ونصوصهم العينية ولوحاتهم الفنيّة البديعة في جمال الشرق من طبيعة وأماكن تاريخية قديمة ووجوه.. وهي المغريات التي جعلت من أعمالهم مرجعاً بحثياً لم يحقّقه العرب أبناء المكان أبناء الشرق العريق، فاندفعوا إلى الالتحاق بجامعاتهم ودراسة مواد الاستشراق على يدي أساتذته الذين كان لهم الفضل في دراسته وتدريسه وتأسيسه عِلماً قائماً اختصَّ بدراسة فكر وتراث وثقافات الشعوب الشرقية، وبخاصةٍ ثقافتنا العربية التي اعتمدت في الكثير من أبحاثها على مصادر المستشرقين.

كان من المُهمّ البحث في ماهية قيمة "الاستشراق" عند الغرب الذي انفتح عليها ودعمها بشكلٍ لافتٍ يفوق كُل الادّعاءات الغربية بحماية تراث وفكر وحقوق الشرق الإنسانية من ويلات الحروب التي تعرّض لها وموجات الكراهية لشعوبها والحملات الاستعمارية والاحتلال الصريح لمجتمعاتها في زمن نشط فيه المستشرقون في أنحاء الوطن العربي ولم يكن لهم موقف سياسي من حملات العداء التاريخي، بل ويجعلنا نتأمل في حجم الضّرر الذي لحق بوطننا العربي من وراء حجم "المعلومات" التي كان يغرفها المستشرقون ولم تكن فقط مُجرّد "معرفة" بثقافات الشعوب ودياناتها، بل كانت أساس تحليلاتهم الاستراتيجية الداعمة للسياسات الغربية تجاه الشرق..

وهذا ما دفع بالمفكّر "ادوارد سعيد" إلى الانتباه لخطر الاستشراق والبحث في جوهر ظاهرته التي انتشرت في حِقب تاريخية مهمّة ثم تمأسست في مواضع متقدّمة، وبنجاحاتها في تحقيق أهدافها أصبحت عِلماً في ظاهره وفي باطنه موصول النتائج بدوائر غربية استعمارية هدفها الأساس معرفة "الشرق" والهيمنة عليه.

ألّف "ادوارد سعيد" عديد الكُتب في "الاستشراق" حلّل من خلالها اهتمام الغرب بالشرق، ومن أهم كتبه التي تعلّق بها المفكِّرون المسلمون وانتقدها المستشرقون كتابه الشهير: "الإستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء"، وكتابه الآخر الذي لا يقل أهمية: "تغطية الإسلام"، فلم يسلم "سعيد" من الانتقادات حيث خوصمت كتبه من طرف المستشرقين والمستعمِرين، ولم يرحِّب به غير المسلمين على اجتهاده وبيانه الفكري؛ كيف أن الإسلام بحضارته وتراثه وعلومه أصبح مفعولاً به في اللغة الاستشراقية.. ويَعتبر ادوارد سعيد الاستشراق مشروعا ناجحا بالنسبة للغرب والخاسر فيه هو الشرق، وأنه لا مكان فيه للعمل الفردي، بل هو عمل جماعي يمتلك هوية حقيقية، تراكمية، وبالتالي فهو نوع من المعرفة التي لها منهج معيّن ومدرسة للتحليل والتفسير، والمجال هو الشرق بكل مكوّناته.. بالإضافة إلى ذلك ورغم أن هناك استشراقا إيجابيا يتمثّل في: أن المستشرق جمع المخطوطات ورتّبها وبوّبها وحفظها في المكتبات الغربية فحقّق وترجم، وأنشأ المعاجم والفهارس، وسهّل تقنية البحث العلمي، إلّا أن ادوارد سعيد خلص إلى أنه لا يوجد ما يُسمّى "الاستشراق الموضوعي" أو الإيجابي، لأن كل ما يُفعل وكل ما يُقال عن أنه موضوعي له ارتباط بالمصلحة فقط، وبالتالي فالاستشراق هو إيديولوجيا.

برأي الكاتب "عبدالقادر الطرنيشي" في عرضه لكتاب "الاستشراق": قد يكون إدوارد سعيد محقّاً من هذه الناحية بحيث أنه لمّا كان الجيش الغربي يبحث عن الموارد الاقتصادية والسياسية، كان المستشرقون يبحثون عن الموارد الفكرية والثقافية والعلمية، فلمّا حققوا بعض التراث أصبحوا يشكِّلون الوساطة الفعلية بين المسلم وتراثه، ولا ندري ربما أتلفوا بعض المخطوطات القيِّمة أو حرّفوها أو سجنوها في أماكن لا نعرفها، أو حتى حُرقت خلال الحربين العالمية الأولى والثانية.. إنها "السُّلطة" بالمعنى الذي حدّده ادوارد سعيد للكلمة.. ويضيف "الطرنيشي": هذا التوجُه لم يولد من فراغ لأن المثقف الغربي دائماً يبني دراساته على تساؤلات تجعله يبحث عن حلول لمعالجتها، وهذا هو سرّ تفوّقهم بحيث أن السؤال الذي حيّر بعض المستشرقين هو: ما سرّ جاذبية الإسلام وسرعة انتشاره؟ فهذا "ليون فانتاني" مثلاً يؤلِّف كتاباً عنونه بـ"المصيبة الإسلامية" يتساءل فيه عن سرّ دخول الشعوب النصرانية إلى الإسلام.. وذاك "مكسيم رودنسون" يؤلِّف كتاباً آخر عنونه بـ"جاذبية الإسلام".. هذه الطائفة من المستشرقين كان هدفهم ولا يزال هو: اعتبار الإسلام دينا تجب محاربته لأنه يشكِّل عقبة أمام انتشار حضارتهم.

لقد نشط المستشرقون في عهود الطفرات العلمية قبل عقود من انتشار "الميديا" وغزو الإنترنت مجالات الحياة المختلفة مع نهايات الألفية الثانية، وكان لعملهم الميداني ووقوفهم على شواهد أبحاثهم ودراساتهم الأثر الكبير في إقناع الشرق بأهميتهم والاعتماد على مصادرهم المعرفية، ما جعل من بعض التوجُهات البحثية العربية تعيد النظر في أصل الكثير من المراجع العربية التي كانت صاغت مناهج التعليم العام والعالي والبحث العلمي دون محاولة التدقيق في مصداقية مراجعها، ومنها ما مسّ جوهر العقيدة الإسلامية بالتشكيك في مفاهيم الشريعة والسنّة النبوية وصحّتها كونهم على علمٍ بأنَّ السنَّة النَّبوية هي المصدرُ الثاني من مصادرِ التشريع، فإذا استطاعوا ذلك فإنَّ الطريقَ مأمونٌ للتشكيك بالقرآن الكريم أيضاً، الذي هو المصدر الأول للتشريع.. لكن الحقائق تظل ماثلة بتماسك الإسلام ديناً وعقيدة، وهي الحقيقة الأهم التي غفل عنها المستشرقون الذين لم يولدوا مسلمين ولم يخرجوا للحياة من عقيدة!