Atwasat

موت النقابات

منصور بوشناف الخميس 16 مايو 2024, 03:34 مساء
منصور بوشناف

قد لا أبالغ إن قلت إن نهاية القرن العشرين كانت صفحة وفيات امتلأت بأخبار الموت، «موت الأيديولوجيا، موت الفلسفة، موت الشعر، موت الاشتراكية والشيوعية، موت القومية والدولة الوطنية» إلخ من أخبار الموت. ولكن دعوني أختصر كل هذه الميتات في موت واحد هو «موت الحداثة» كمشروع إنساني انبنى على قيم التنوير وسيادة العقل والإنتاج والمواطنة، والأهم صناعة المصير الإنساني بأيدي وعقول البشر. كانت المجتمعات قد غادرت أشكالها الاجتماعية والاقتصادية، وبالطبع السياسية، القديمة وبنت حداثتها على قيم الثورة الفرنسية وما تبعها من ثورات وتغيرات في أوروبا وأميركا وبدأ مدها الاستعماري يتمدد عبر قارات وشعوب العالم.

كانت شعارات ذلك العصر «عصر الحداثة» الإنتاج وتنمية رأس المال من أجل المستقبل والأجيال المقبلة ونشر وترسيخ قيم المواطنة وحقوق المواطن وواجباته تجاه الأمة وأجيالها المقبلة. كانت أبنية تلك المجتمعات الاقتصادية والسياسية قد ترسخت وصارت النقابات أحد أهم التنظيمات الاجتماعية الفاعلة في تحقيق تلك الشعارات والأهداف.

النقابات كانت قد ظهرت نهايات القرن التاسع عشر كجمعيات وتجمعات مهنية للدفاع عن حقوق أعضائها وانتزاع بعض الحقوق لهم من أصحاب العمل والشركات الرأسمالية التي ظلت تستغلهم معتمدة على إرث العبودية الذي تطلب التخلص منه وتحسين حياة العمال نضالا ما كان بإمكان الأفراد خوضه والانتصار فيه.

تلك النقابات حققت الكثير من المكاسب لأعضائها وأعادت لهم الكثير من حقوقهم، بل وحققت لهم مكاسب وحقوقا جديدة ما كان بالإمكان تحقيقها. لذا ترسخت تلك النقابات وتقوت وصارت فاعلا مهما في حركة مجتمعها والنهوض به وتحقيق الكثير من حقوق المواطنة عمليا وليس كشعار.

النقابات كانت الضامن الأهم في توازن القوى الاجتماعية والحفاظ على مسيرة المجتمع نحو العدالة والحرية وتحقيق قيم المواطنة عبر خوضها حربَها بأدوات التظاهر والإضراب والاحتجاج والعصيان المدني، حتى صارت شريكا مهما وقويا في رسم سياسات دولها وتوجهات مجتمعاتها. النقابات كانت أحد منجزات الحداثة وأحد أهم مظاهرها وأدواتها الاقتصادية والسياسية والثقافية.

نهايات القرن العشرين كانت لحظة تحول تاريخية فارقة، شهد فيها العالم بعد هزيمة النازية تحديدا ظهور حركات التحرر وحروب تحرير الشعوب المستعمرة وتمكن تلك الشعوب من نيل استقلالها السياسي وطموحها لنيل استقلالها الاقتصادي والثقافي، وكل ذلك شكل أزمة لتلك الدول الرأسمالية أدت إلى شكل جديد من الصراع داخل مجتمعاتها وكانت النقابات طرفا مؤثرا في تلك الصراعات، كان العالم يدخل مرحلة جديدة من تاريخه، كانت أزمة الحداثة تبلغ ذروتها.

تتوجت تلك المرحلة بهزيمة أميركا في فيتنام ثم تفجر ثورة الطلاب ثم ظهور المجموعات الإرهابية الأوروبية وحركات السود في أميركا، كانت ساعات انهيار ربما أشد تأثيرا بالنسبة لمجتمعات الحداثة من كل حروبها السابقة. النقابات والاتحادات والجمعيات والمنظمات كانت بالتأكيد المقاتل الأهم والأخطر في تلك الحرب الداخلية والعالمية وكان لا بد لنظام الحداثة الرأسمالي من تدمير ذلك المقاتل وفي أسوأ الأحوال ترويضه وتخديره، وانطلقت الموجة «الماكارتية» الثانية بأدوات وأساليب تناسب العصر والمعركة. لذا لم ينتهِ القرن العشرون إلا و«صفحات الموت » تمتلئ بأخبار وفيات «الحداثة».

ماتت حركة الطلاب وانتهت الحركة العمالية وصنعت بدلها جمعيات ومنظمات لتزييف الوعي وتوجيه حركة المجتمع نحو غايات وأهداف لترسيخ قيم الرأسمالية الجديدة، أعني «الفرد بدل المواطن، الاستهلاك بدل الإنتاج، المتعة بدل الإنجاب، الحاضر بدل المستقبل، الصنم بدل الجسد الإنساني الحي، الماورائيات بدل العقل، السيولة وموت المرجعيات، الأميركانية بدل العالمية».

في كتاب «قرن أمريكي آخر» الصادر في نهايات القرن العشرين يؤكد المؤلف أن القرن الجديد سيكون قرن القيم الرأسمالية بتمظهرها الأميركي الكامل وسيادتها العالم كاملا وكل ذلك بعد موت الأيديولوجيا والدولة الوطنية، بعد التفكيك وموت المؤلف وموت «الحداثة» وقيمها التي أنتجت النقابات والمشاريع الكبرى والسرديات الكبرى، لتسود «ما بعد الحداثة» وهي ليست إلا أشلاء الحداثة وقد ونكل بها.

حرب غزة، ورغم كل الخسائر، ليست إلا انتفاضة لقلب «الحداثة» وقيمها الموءودة، حرب استرداد جديدة في هذا القرن الجديد لقيم الحرية والعدالة والتحرر الوطني، حرب استرداد لقوى اجتماعية غيبت وزيف وعيها في مجتمعات المركز الرأسمالي يبدأها طلاب أميركا وأوروبا كما بدأها طلاب أوروبا في ثورتهم العام 1968م وحرب فيتنام.

لقد ظللنا نرى شعوب العالم الثالث المستعمرة ضحية ومفعولا بها من قبل القوى العظمى وغير قادرة على التأثير في تلك القوى، ولكن تجارب فيتنام والآن التجربة الفلسطينية الغزاوية تعلمنا أن هذه الشعوب المقهورة والمستعمرة قادرة ليس على تحرير أرضها من المستعمر بل على تحرير إنسان وقوى المركز الاستعماري الرأسمالي من القيود التي تكبله داخل ذلك المركز.