Atwasat

المبعوثة العاشرة والمخاض العسير

سالم العوكلي الثلاثاء 30 أبريل 2024, 01:11 مساء
سالم العوكلي

ويرحل المبعوث التاسع دون أن تنبعث ليبيا من تحت رمادها، تسعة مبعوثين خلال 13 عامًا، ويبدو أنه ـ كما يكرر الكاتب أحمد الفيتوري ـ «الحل في اللاحل»، وكل مبعوث يجر بقلمه على ما تركه السابق من خطوط باهتة، وأسباب هذا الدوران الأممي والمحلي في حلقة مفرغة كثيرة ومتداخلة؛ أهمهما تجاوز الأولويات، ووضع البغال خلف العربات، وإقصاء شرائح واسعة من المجتمع من كل حوار ومبادرة، والرضوخ الطوعي لما فرضته سياسة الأمر الواقع من أطراف وأجسام دون شرعية، ودون كفاءة أحيانًا، ودون نزاهة غالبًا.في منتصف القرن الماضي.

وبعد خروج ليبيا من عقود من الاحتلال الفاشي الإيطالي، كان صراع الأطراف الدولية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على أشده من أجل الاستحواذ على تركة المستعمرات الإيطالية السابقة في أفريقيا ومن ضمنها ليبيا، وبسبب عدم اتفاق تلك الأطراف على رؤية لتقاسم هذا الميراث عبر الوصاية، أُحيل ملف ليبيا إلى جمعية الأمم المتحدة لتنال استقلالها.

والمفارق أن مبعوثًا واحدًا (مفوضًا ساميًا) مُنح سقفًا زمنيًا مدته عامان، كان كافيًا لخروج ليبيا المعجز فوق الأرض بأول دولة وطنية دستورية مستقلة. فما هو الفرق بين هذه المرحلة الصعبة وتلك المرحلة الأشد صعوبة؟ هل الفارق بين الليبيين في تلك الفترة وهذه؟ أم الفارق بين منظمة الأمم المتحدة آنذاك والآن؟ مع ملاحظة أن عدم الاتفاق بين الأطراف الدولية الفاعلة آنذاك، بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كان السبب في أن تنال ليبيا استقلالها، وعدم الاتفاق بينها في مجلس الأمن الآن هو أحد أسباب استفحال الأزمة التي قد يُفقدها الاستقلال.

بداية منتصف القرن الماضي وصل المفوض السامي، الصحفي الهولندي، أدريان بيلت، متدرعًا بما قرأه من كتب عن تاريخ هذا الكيان (أشار إليها كمراجع في كتابه الضخم «استقلال ليبيا والأمم المتحدة: حالة تفكيك ممنهج للاستعمار»)، ومستفيدًا من خبرته الصحفية، بدأ مهمته بجولات استطلاعية في كل مناطق ليبيا لمعرفة آراء شرائح واسعة من القوى السياسية والاجتماعية، إضافة إلى رحلاته الخارجية للتفاهم مع سلطات الدول الحاضرة آنذاك على الأرض الليبية والمؤثرة في ملفها.

حين وصل المفوض وفريقه إلى ليبيا واجه منذ البداية عقبات لوجستية صعبة جدًا، وأرضًا شاسعة بلا بنى تحتية تقريبًا، لدرجة أنه لم يجد مقرات مناسبة لإقامة بعثته وفريقه من الخبراء، ولا منظومة اتصالات أو مواصلات مناسبة، وكانت طائرة الأمم المتحدة التي يتنقل بها تهبط في مطارات ترابية بعد رحلات مضنية، ومن خلال قراءاته وجولاته كانت تتبلور أولويات مهمته لتأسيس الدولة، وهذا الاستطلاع الميداني للجغرافيا والتاريخ والمحتوى البشري هو ما جعله يعود إلى مقر الأمم المتحدة، وفي أول إفادة يوضح أنه لن يستطيع تنفيذ القرار بنصه وحذافيره.

مقترحًا تعديلات تجعله يبدأ بدولة اتحادية من ثلاث ولايات، ودستور يدشنه ليبيون سيكون مشرعًا لتوحيد الدولة مستقبلًا.كان بيلت يتعامل في الشرق مع إمارة كانت قد قامت فيها انتخابات، ولديها مجلس نيابي، وشخصية روحية ذات كاريزما متمثلة في الأمير إدريس، وفي طرابلس والغرب عمومًا تعامل مع أعيان وتيارات سياسية منضوية تحت حزب المؤتمر الوطني برئاسة مؤسسه، بشير السعداوي المتمتع أيضًا بشخصية كاريزمية.

وفي الجنوب، مع مجلس قبائل بزعامة السيد أحمد بي سيف النصر، وهو أيضًا شخصية وطنية تتمتع بكاريزما عالية ونفوذ اجتماعي، وفي الوقت نفسه يتعامل مع قوى موجودة على الأرض، خصوصًا فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، بينما القوى الإقليمية كانت ممثلة بالباكستان كدولة إسلامية، ومصر كدولة عربية؛ اللتين مثلهما عضوان في المجلس الليبي الدولي من عشرة أعضاء. وقد ركز المفوض في عمله على التعامل مع التيارات المعتدلة، نائيًا عمن يسميهم (راديكاليون) من كل الأقاليم، سواء من دعاة الانفصال المغالين، أو من دعاة الوحدة المغالين.

وبالحديث عن الأولويات المهمة، كان من حسن حظ تلك البعثة أن سبقها، في ظل الإدارة البريطانية، مواثيق عدة للمصالحة الاجتماعية، ما هيأ أرضية مناسبة للبناء عليه دون أن تختفي الخلافات بين ولايات ليبيا الثلاث حول قضايا تفصيلية عدة، خصوصا أثناء كتابة الدستور، وهي أمور تغلب عليها المبعوث بسياسة الإنصات للجميع، والتركيز على المشترك قبل المختلف عليه، والاستعانة بشخصيات وطنية مرنة لها حضور قوي للتغلب على هذه الخلافات.

واختيار الحل الذي يراعي مخاوف كل طرف، عبر الرؤى السياسية والاقتصادية والتنموية التي تضمنها الدستور التوافقي. وكنت أميل إلى تسمية المصالحة الاجتماعية بدل السياسية، والتي كانت ضرورية بعد عقود من الاحتلال الإيطالي انقسم خلالها الليبيون، وفي كل الجهات، بين ضحايا ومستفيدين، وبين مقاومين ومتواطئين ذوي امتيازات، غير أن الحس الوطني الغالب الذي اشتغلت ضمنه المصالحة جعل هذا المناخ ملائمًا لعمل المفوض السامي وفريقه وكل اللجان المشَكَّلة من ليبيين.

فكانت الأولويات تتمثل في المصالحة ثم صياغة الدستور وتقديم الشخصيات والتيارات المعتدلة من أجل حسم أساسيات بناء الدولة، وهي الآلية التي جعلت من مهمة بيلت ناجحة وإن لم تكن سهلة، وكما يقول كانت التجربة الليبية نموذجًا ناجحًا استلهمتها دول أخرى في طريقها إلى الاستقلال. ليترك أدريان بيلت شارعين باسمه، في طرابلس وبنغازي، بينما تسعة مبعوثين تركوا خلفهم شوارع محتقنة ومتهالكة، والبعض نسيت أسماؤهم بمجرد رحيلهم. فهل كانت مهمة تأسيس دولة من الصفر أسهل من ترميم دولة متصدعة؟

بالتأكيد التاريخ لا يعيد نفسه والظروف تتغير، لكن من الممكن أن يقتبس التاريخ من تجاربه، أو يتناص مع وقائعه السابقة، ومن الواضح أن الأطراف الليبية آنذاك كانت غير الأطراف الليبية الآن، وأن منظمة الأمم المتحدة قبل 75 عامًا غير منظمة الأمم المتحدة الآن، وخارطة القوى الإقليمية آنذاك مختلفة عنها الآن، فضلًا عن جزئية مهمة تتعلق بالميديا ووسائل الإعلام التي عملت في سنوات الأزمة الراهنة على تغذية الصراعات والانقسامات بقوة، سواء أكانت شبكات إعلام عربية انقسمت وفق مزاج دولها حيال الملف الليبي، أو قنوات محلية وسوشيال ميديا أججت هذا الانقسام والاحتقان وأحيانًا الكراهية، وهذا أمر لم يكن موجودًا إبان مهمة أول بعثة أممية تأتي لليبيا، كما أنه، ورغم أن الملكية السنوسية حركة دينية، إلا أن النزعة الإسلاموية لم تضغط على اللجان ولا الدستور ولا القوانين المنبثقة، ولم تتحول فيها إلى أيديولوجيا فتاكة كما يفعل الإسلام السياسي الآن والذي فعلًا تعثر به الربيع العربي كله، والحري بالذكر أن ليبيا في ذلك الوقت كانت تحت وصاية بريطانية وفرنسية، والآن تحت الباب السابع.

على كل حال ستصل الآن مبعوثة (أنثى جديدة) إلى شبه دولة ذكورية بامتياز يتصارع فيها الفحول بكل شراسة، ويتفشى فيها الفساد المحمي بالسلاح الخارج عن القانون، وشبكة من التعقيدات وقعنا فيها نتيجة أخطاء كثيرة وقع فيها المبعوثون السابقون، مثل تجاهلهم لمبدأ الشرعية، وتركيزهم على واقع فُرض بالقوة رغم ما لهم من صلاحيات قوية للتعامل مع بلد تحت الباب السابع، والانقياد وراء صراع على المناصب في بلد لا سلطة فيه، وصراع على الثروة في بلد لا شفافية فيه ولا مؤسسات رقابة، والاستسلام لأطراف يعرف كل المبعوثين أنهم لا يريدون حلًا، وكل حل سيعني حلَّهم هم أنفسهم ووجودهم خارج المشهد أو غالبًا خلف القضبان، وعدم تبني الأمم المتحدة لأي رقابة مالية صارمة، كل ذلك جعل من مهمة أي مبعوث معقدة ومحلك سر.

فجهود المبعوثين السابقة جرت في بيئة سياسية فاسدة، وللفساد طرقه في الدفاع عن نفسه بما فيها تعطيل أي مبادرة للحل أو الخروج من نفق مظلم يمثل بالنسبة لهم منجمًا للذهب، خصوصا أن الفساد في ليبيا له أذرع مسلحة، وله سمة بنيوية خاصة، باعتبار أن السياسة عادة ما تفرز فاسدين، لكن ما حصل في ليبيا أن الفساد هو الذي أفرز سياسيين، وهذا الانقلاب الهرمي هو ما أنتج عبارة «الطبقة السياسية الفاسدة» التي تطالب عديد الشعوب الشبيهة في المنطقة بالتخلص منها بالكامل، مثل لبنان، ويشاء القدر أن يكون ثلاثة مبعوثين من التسعة من أصول لبنانية يعرفون جيدًا ماذا تعني دولة الميليشيات، وماذا تعني الطبقة السياسية الفاسدة.

ومن أجل تجاوز حقل الألغام هذا، هل من الممكن أن تتجول المبعوثة الجديدة في كل مناطق ليبيا مثلما فعل المفوض السامي أدريان بيلت، لتنصت إلى الصوت الخافت في هذا

المجتمع ومعرفة الكامن فيه الذي يمكن البناء عليه؟ هل ستتجاوز ما فرضه الأمر الواقع إلى ما يمكن أن يبتكره الأمر الممكن؟ هل ستُلقي بنزاع الأطراف المستفيدة خلفها، وتبني على ما حدث في ليبيا المسكوت عنها بعد كارثة إعصار دانيال التي أظهرت في ليبيا مكبوتا اجتماعيًا تصالحيًا أقوى ووجدانًا أنقى مما يحاول أن يدعيه أو يفرضه المتنفذون ووسائل إعلامهم من كراهية وانقسام، لتكون نقطةَ انطلاقها، وإشراكها للشارع الليبي وقواه المدنية والاجتماعية في أي مبادرة تتبناها؟

إن ما هيأ الأرضية المناسبة لأول مبعوث أسس الدولة الليبية شعار تصالحي تسامحي سبقه (حتحات على ما فات)، فهل ستبني المبعوثة الجديدة ستيفاني خوري مشروعها على شعار ظهر قبل أشهر إبان الكارثة التي حلت بدرنة وبعض مدن الجبل الأخضر (فزعة خوت)؟، لتكون ربما المبعوثة الأخيرة للأزمة الليبية، وقد تترك شارعًا يحمل اسمها في ليبيا.