Atwasat

«اللي يخنب صومعة يحفر لها بير»

جمعة بوكليب الأربعاء 01 مايو 2024, 11:37 صباحا
جمعة بوكليب

نقولُ صومعة، ونعني بها مئذنة مسجد، أو منارة جامع. وجمعها صوامع وصومعات. واستنادًا إلى مصادر في الشبكة العنكبوتية، فإن الصومعة مفردة مستعارة من المعجم الديني المسيحي وتعني: «معبد الناسك ومدار الراهب في الأماكن النائية». وهي مذكورة في القرآن الكريم بصيغة الجمع في سورة الحج. ولا أعرف على وجه الدّقة كيف ولماذا انتقلت من القاموس الديني المسيحي إلى نظيره الإسلامي؟ وانتقل استخدام المفردة من المعجم الديني إلى المعجم الهندسي المعماري. إذ بدأ المهندسون المعماريون في استعارة معمار الصوامع في بناء مخازن الحبوب. فصرنا نرى مخازن كبيرة وكثيرة تشيد لتخزين الحبوب على شكل صوامع، يطلق عليها اسم صوامع الحبوب.

أنا شغوفٌ بالصوامع منذ الصغر. واختلافها في التصاميم، من بلد إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، مثير ولافت للاهتمام، ومن الصعب تجاهله. وكنتُ في مرحلة مبكرة من عمري أتساءل عن الأسباب التي حَرمت بعض الجوامع من بناء صوامع. قد يقول قائل إن الصوامع عادة تكون في الجوامع أو المساجد كبيرة المساحة. وهو قول مقبول، لكني أذكر أنني رأيت، في ليبيا وخارجها، جوامع صغيرة المساحة، وبصوامع.

وأذكر أنني كلما وجدتني في منطقة شارع السيدي، بقرب المستشفى المركزي - طرابلس، أحرص على التمعن في الصومعة الحمراء، وأستغرب لماذا من دون كل جوامع ومساجد طرابلس، اختاروا للصومعة لونًا أحمر بدل الأخضر، الذي يزين بقية الصوامع؟ وإلى حدّ الآن، بقي سؤالي، قائمًا مثل صومعة، بلا جواب.

وفي زمن سابق، أي قبل أن تدخل مكبرات الصوت إلى المساجد، كان المؤذنون يعتلون درجات سلالم شديدة الالتواء في داخل الصوامع، ويصعدون إلى أعلاها للأذان. وحين كنت صغيرًا، خاصة في أشهر الصوم، أحرص على الذهاب إلى جامع محمود، بالمدينة القديمة، قبل أذان المغرب، لكي أشاهد المؤذن، وكان أحد أبناء الشيخ الزرقاني إمام الجامع ومعلم القرآن، يظهر في أعلى الصومعة ويؤذن بصوت جميل وساحر.

وما كنتُ أنجذب للحديث عن الصوامع، لولا لفتة كريمة من الباحثة الأستاذة أسماء الأسطى، وتفضلها بإرسال رسالة نصّية إليَّ شملت، ضمن أشياء أخرى، المثل الشعبي، الذي اخترته ليكون عنوانًا لهذه السطور. وعلمتُ منها في نفس الرسالة النصّية، أنّها بصدد الانتهاء من تدوين كتاب قريبًا عن الأمثال الشعبية الطرابلسية، والمثل أعلاه قالت إنها وجدته خلال عملية البحث في إعداد للكتاب، منشورًا في جريدة «أبوقشة» لصاحبها الشيخ محمد الهاشمي المكي، الذي جاء طرابلس هاربًا من تونس، بعد صدور حكم قضائي ضده بالقدح والذم.

أنا شخصيًا لم أسمع بالمثل من قبل. وشدَّ انتباهي كونه يتعرض لسرقة صومعة! إذ من يفكر ويجرؤ على فعل ذلك؟ وحتى إن أفلح، ما الفائدة التي ستعود عليه من سرقة صومعة؟

الصوامع كما نعرف لا تُسرق، ولا تثير شهية اللصوص، بسبب كبر حجمها، وصعوبة إخفائها، وانعدام سوقها. وفي حالة حدوث السرقة، على السارق أن يتعب ويشقى، لكي يحفر بئرًا عميقة لإخفائها، كما يؤكد على ذلك المثل أعلاه!
اختار المثل الشعبي الصومعة مجازًا لكبر حجمها وصعوبة إخفائها. ويعني أن من يفكر في القيام بسرقة كبيرة، في حجم صومعة، عليه أن يفكر قبل الإقدام على فعلته، في كيفية إخفاء الأثر. وتلك حكمة الأمثال وجمالها.

ولأن المثل أعلاه قديم، والدنيا لا تبقى على حال، كونها معروفة بتقلباتها وتغيراتها، وجدنا أنفسنا نعيش في عصر أضحت اللصوصية من أوضح وأبرز سماته، ويسرق فيه ما هو أكبر وأطول من الصوامع، عيني عينك: (سرقة فلسطين) ويسوده لصوص مختلفون بأنواع عديدة، يتفاوتون في المناصب والمراتب. بعضهم يجلسون على مقاعد رؤساء دول ورؤساء حكومات وبرلمانات. وبعضهم قادة عسكريون برتب ونياشين، وبعضهم انتخبوا نوابًا في برلمانات ليمثلوا شعوبهم.. إلخ. الغريب أنهم على وعي بالمثل الشعبي أعلاه، بدليل حرصهم على حفر آبار لإخفاء ما يسرقون من صوامع: حيازات زراعية، عمارات سكنية، مصانع، مزارع، أراض، مصارف، مؤسسات، وزارات.... والقائمة تطول.

وفي ليبيا، في غياب الدولة، وانعدام الرقابة، أضحى تزوير وثائق الملكية الرسمية شائعًا، وحلَّ محل حفر البئر الموصى به في المثل أعلاه. فلصوص العمارات والحيازات الزراعية والدارات في ليبيا مثلًا، يحفرون الآبار لإخفاء سرقاتهم عبر وسطاء وسماسرة توكل إليهم مهمة شراء ذمم موظفين فاسدين في مؤسسات الدولة ذات الصلة بالموضوع، وإحضار شهود احترفوا شهادة الزور، وكذلك توفير مختاري وشيوخ محلات، يحملون أختامًا رسمية، بهدف تزوير وثائق التمليك رسميًّا.