Atwasat

مكافحة الفساد مطلب وجودي

أسامة إبراهيم السحاتي الأربعاء 29 نوفمبر 2023, 01:04 مساء
أسامة إبراهيم السحاتي

نعم، مكافحة الفساد مطلب وجود، يعني حياة أو موتاً، تبدأ دائماً قصتنا وعلاقتنا القديمة والحميمة مع الفساد في ليبيا، ونحن والحمد لله قدمنا أنماطاً جديدة ومثيرة في الفساد لم يسبقنا عليها أحد، وأصبحنا علامات فارقة وبراءات اختراع، وتحصلنا على نسب مرتفعة جدا في نقاط تقارير مدركات الفساد، وبالفعل ها هي الدولة الليبية تتفوق على أمريكا والصين واليابان وعلى أغلب دول العالم وتسجل نصرا وتتقدم صفوف الفساد العالمي.

وأنا هنا لا أتحدث عن أبطالنا الفاسدين الخاربين، لا، حاشا لله، ولا يقتصر الأمر عند مكافحة الفاسدين، وإنما أتحدث عن تصور حياة المواطنين دون فساد، حق الناس في معرفة أسباب الجهل والمرض والتخلف، حق الناس في فك رموز المعادلات المجنونة الصعبة.

إليك عينة من تلك المعادلات الصعبة والمجنونة:
• تزايد معدلات الإنفاق على قطاع الصحة وفي المقابل يعالج معظم الليبيين في القطاع الخاص أو مصحات تونس أو مصر.

• تزايد معدلات الإنفاق على قطاع التعليم وفي المقابل تراجع مستويات الاستيعاب ومستويات أداء العملية التعليمية والتربوية.

• تضاعف الإنفاق التسييري المتمثل في المرتبات على الرغم من مخاطر توقف الخدمات الحكومية وعدم قدرة الدولة على الاستمرار في تقديم الخدمات، فضلا عن تحسينها وتطويرها.

• ترسيخ ثقافة الاستهلاك والاتكالية وعدم الإنتاجية.

• تجريف القطاعات الحكومية وارتهانها إلى شرذمة فاسدة تعمل لصالح بعض المؤثرين في اتخاذ القرارات، وهجرة العقول المستنيرة إلى العصيان المدني، أو الارتكان إلى الظل، كذلك ابتلاع القطاع الخاص لصالح فاسدين جدد، في ظل احتكار السوق لقلة من الحكام السياسيين.

• سيطرة اللاعبين الجدد الذين كبروا في ظل حالة الفوضى، وبنيت عقائدهم على حالة الفوضى وترسخت في أذهانهم على أنها نمط حياة طبيعية ومستقرة.

• اهتمام الحكام السياسيين بالقطاعات ذات المخصصات المالية الكبيرة، فالنظر إلى الدولة من حيث حجم المخصصات، وبالتالي خلق وابتكار آليات لرعاية الفساد من خلال السيطرة على منشأ الأموال وطرق صرفها وحصر المؤثرين كافة على الإنفاق، وكلما كانت دورة تفريخ الفساد والعمولات سريعا كان القطاع أكثر أهمية، وبالتالي فإن ثمن الوظيفة المؤثرة في دورة تفريخ الفساد سيكون غاليا جدا.

• تلك المعادلات السابقة أثرت في تراجع منظومة القيم التي تبنى عليها الأمم، كقيم السيادة والشرف والعزة والنزاهة والتعاون والخلق والإبداع والوطنية والعدالة والعلم والقناعة، وتنامي ظواهر العمالة وحب المال والترف والاتكالية ولغة السلاح والجهل والقبلية والجهوية والتخلف والاصطفاف والخوف.

ومازلنا نتحدث عن فرص العيش اللائق الكريم دون فساد، فإما العيش الكريم وإما الفساد وعلينا أن نختار كليهما، فلولا فساد الطغمة السياسية الحاكمة والفاسدة لأمكننا أن نعمل الآتي بمفهوم الفرص الضائعة:
• يتحدث العالم في العقود الأخيرة عن التنمية المستدامة في ظل الحروب والانقسامات ونهب الأموال التي تدور في بلادنا مما أفقدنا القدرة على فهم الواقع البيئي والمناخي الذي تعيشه منطقتنا، فالعالم يتحدث منذ عقود عن التنمية المستدامة الخضراء والبنية التحتية الخضراء والأغطية النباتية والحد من الانبعاثات والكربون وبناء المدن الآمنة القادرة على الحد من أضرار الزلازل والبراكين والعواصف، والمدن الصناعية الذكية الخالية من الملوثات والمحافظة على البيئة، وكذلك الطاقات البديلة والشراكة، كذلك التعليم والصحة والمرأة، فكانت تكلفة الفرصة الضائعة باهظة جدا، حصدت الآلاف من الأرواح بسبب انعدام التعاطي مع مفردات الاستدامة التي تفرض سياجا للبشرية من إدارة المخاطر سواء بالحد منها أو تجنبها، وتوجيه البلاد إلى العمل على البناء الاستراتيجي الآمن والمستدام.

• يتناول العالم قضايا الإصلاح المؤسسي والمالي بكل جدية، سواء من حيث إعمال قواعد الحوكمة والشفافية والإفصاح والمساءلة والمشاركة وسيادة القانون، وذلك بهدف التخصيص الأمثل للموارد وتوزيع الثروة والنمو والتنمية والازدهار، كما تتناول التقارير دخول معظم دول العالم إلى هذا السباق، ولأن قضايا الإصلاح تأخذ وقتا ليس بالقصير فإن معظم الدول بما فيها دول الجوار قطعت أشواطا مهمة في هذا الاتجاه، وتشير معظم الدول وخاصة دول العالم الثالث النامية إلى أن الإصلاحات المؤسسية ترتبط بصورة مباشرة بالإرادة السياسية لحكام تلك الدول، فكيف لحكامنا في ليبيا أن تكون لهم إرادة سياسية في دك معاقلهم وقصورهم وترفهم، ومازالت الفرصة ضائعة إلى يومنا هذا، ومازلنا نماطل في تبنى الإصلاحات، وفي تصوري أن الفرصة الضائعة ستمتد إلى أجل ليس بالقصير.

• تتجه أدبيات تقييم الخدمات الحكومية العامة إلى التركيز على المتلقي الأخير للخدمة، أي المواطن بوصفه أحد أهم أصحاب المصلحة وزناً وتأثيراً، كما تنوعت أساليب قياس رضى المواطن عن تلقيه للخدمات، وتستخدم هذه الأساليب لأغراض التطوير والتحسين المستمر، إن هذه الأدبيات أنتجت مؤشرا حيويا يتعلق بقياس جودة الحياة، وخاصة فيما يتعلق بالطرق والمواصلات والاتصالات والتعليم والصحة والاقتصاد والغذاء والمصارف والأعمال، أي النظر إلى سهولة الحياة وبساطتها، حياة بدون طوابير ومنظومات معطلة وموظفين غائبين، ومعلمات ومعلمين متأزمين وأطباء يضحكون فقط في عياداتهم الخاصة، وأسعار نار، ومرتبات لا تكفي، ورشاوى، وسيارات قديمة كثيرة الأعطال،..... المهم، هناك فرص ضائعة في أن نلحق الركب، وأن نبدأ منذ زمن في قطع المسافات تجاه الانتقال إلى مستويات مهمة من جودة الحياة، ويبدو أننا ننتقل بخطوات مسرعة ولكن في اتجاه مزيد من التعقيد والصعوبة واستحالة العيش والتفكير في الهجرة، والإحباط والشعور بالظلم، فالفساد المؤسسي أحال أغلب مؤسساتنا إلى استحواذ عصابي لا يفكر في تحسين جودة الحياة، وإنما إلى التفكير في تحسين حياتهم وحياة من أتى بهم.

• ليبيا تعج بالقدرات والخبرات البشرية المؤهلة والنزيهة والقادرة على إحداث التغيير والتنمية المستدامة، وكان من الممكن تجنب الكثير من الإخفاقات والاستفادة من الفرصة الضائعة، التي أنتجها نظام التوظيف في المراكز القيادية المبني على المحاصصة والجهوية، وفرز وبناء قيادات تستجيب لحالات الفساد والتربح، إن هذا الجو من المناخ الفاسد أفقد الأعمال قدرتها على الاستمرار، وقدرتها كذلك على تحليل التحديات وبناء الاستراتيجيات والبرامج التي تسعى إلى التحسين والتطوير، كذلك عدم القدرة على رصد أو إدارة المخاطر التي تحيط بالمجتمع الليبي، وبروز حالة الفوضى العارمة، والقطيعة بين وظائف الحكومة والمسؤولين عن إدارة هذه الوظائف، كذلك الحواجز بين إدارات التكنوقراط وبين طبقة المسؤولين، وتسليم هذه الإدارات الفنية والمتخصصة للمؤدلجين الذين ينتمون لفصائلهم وأمرائهم، إن هذه الفرصة الضائعة سوف تلقي بظلالها على المدى البعيد، وكلما طال أمد حالة الفوضى تعقدت سبل ووقت معالجتها، لأن معالجة حالات الفوضى الفردية أسهل بكثير من معالجة الفوضى عندما تصبح ظاهرة أو ثقافة مجتمعية.

إن الفوضى هي الفعل المعاكس للتخطيط، فالتخطيط يتطلب التنبؤ بالمستقبل والاستعداد له، وهذا يتطلب دراسة حقيقية وجادة وموضوعية لواقع الحال في ظل مؤثرات أخرى على الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية ومن ثم تقريب الصورة الذهنية لواقع المستقبل المتصور، إن هذا النوع من الأعمال يحتاج إلى قدرات وطنية من نوع خاص وفريد، قدرات تستطيع أن تختار النماذج المتعددة المناسبة للحالة الليبية وأن تستقريء الواقع المعاش والخروج برؤية تنموية شاملة ومستدامة وقابلة للعمل، هذه هي الفرصة الضائعة لواقع بدون مؤشرات أو سياسات او استراتيجيات، واقع ارتجالي، دون تحديد لغايات أو اتجاهات، والاتجاه الوحيد والواضح هو أننا نسير إلى الهاوية بكل ثقة.