Atwasat

جدة البشرية تدعى لوسي

عمر الكدي الإثنين 29 أبريل 2024, 07:12 مساء
عمر الكدي

تاريخ الذكاء هو تاريخ الجنس البشري أو كما يسميه علماء الأنثروبولوجيا بـ«هومو سابينس»، قبل هذا النوع البشري ظهرت سبعة أنواع بشرية انقرضت جميعا، ولم يبق على وجه الأرض إلا الهومو سابينس، ومن خلال تاريخ هذه السلالة يتضح أن سبب بقائها حتى الآن، هو في قدرتها على التكيف مع التحديات التي واجهتها، بينما لم تستطع بقية الأجناس التكيف فانقرضت مثلما انقرضت الديناصورات التي سادت الأرض قبل 60 مليون سنة.

تنحدر جميع هذه الأنواع البشرية من رتبة الرئيسيات، أي القردة العليا، التي لا تزال تعيش على الأرض، مثل الشمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب الأورنج اوتان وغيرها، وكانت أفريقيا هي المهد الأول للبشرية، ولكن الإنسان لم ينحدر مباشرة من القردة العليا، بل انحدر من كائن آخر يسمى أوسترالوبتيكوس، لم يصنفه علماء الحيوان لا قردا ولا إنسانا. كان يمشي منتصبا ويداه طويلتان مثل أيدي القرود، أما جمجمته فصغيرة ويقدر حجم مخه بثلث حجم مخ الإنسان العاقل.

في العام 1974 عثر علماء الحفريات في إقليم عفر بإثيوبيا على جمجمة وشظايا عظام تشكل 40% من هيكل فتاة تنتمي لهذا الكائن، أطلقوا عليها اسم لوسي، مما يجعلها رمزيا جدتنا الأولى التي انحدرنا منها.

هذا الكائن اضطر للهبوط من الشجرة بعد أن بدأت الأشجار تختفي من الغابة المطيرة في شرق أفريقيا، ويبدو أن التغييرات المناخية هي السبب في هذا التحول، فشَحَّ الغذاء الذي كان متوافرا على الأشجار، مما اضطره للهبوط إلى سهول السافانا حيث وجد نفسه فريسة سهلة للحيوانات المفترسة، وسرعان ما انقرض هذا المخلوق لأنه لم يستطع التكيف مع الواقع الجديد، ليحل محله أول كائن يمكن اعتباره إنسانا وهو «هومو هابيلس» أي الإنسان الماهر لأنه الكائن الأول على وجه الأرض الذي استخدم يديه في صنع أشياء جديدة.

هذا الإنسان عندما وجد نفسه أعزل في سهول السافانا فكر في أن يتسلح للدفاع عن نفسه، ولم يجد متوافرا إلا الحجارة وبعد تجارب عديدة استغرقت مئات السنين، تمكن الإنسان الماهر الذي لا يزال حجم مخه صغيرا من صنع أسلحة من حجر الصوان والجرانيت، وهو يضرب الحجارة ببعضها ليحول حوافها إلى سكين حادة، انطلقت شرارة كادت أن توقف قلبه من الرعب، ولكنها كانت كافية ليتعلم كيف يشعل النار، وكان هذا الاكتشاف هو أكبر اكتشاف في تاريخ البشرية.

عرف هذا الإنسان النار مبكرا منذ أن كان فوق الأشجار، ورأى الصواعق وهي تضرب الأرض مسببة حرائق ضخمة، جعلته يهرب مع الحيوانات الأخرى بما في ذلك الحيوانات المفترسة التي كان يخشاها، وعندها تأكد أن النار أقوى من الجميع فخاف منها وتضرع إليها باعتبارها إلها، ولا تزال النار تحظى بالقداسة في الديانة الزرادشتية «المجوسية»، وعندما أشعل النار للمرة الأولى شعر بثقة كبيرة في نفسه، وخاصة عندما جمع الحطب ليؤجج النار أمام كهفه، وعندها أخذ يرقص ويصيح متحديا كل الحيوانات المفترسة التي كانت تخشى من النار أيضا.

قبل هبوطه من الأشجار كان الإنسان الماهر نباتيا، وبعد هبوطه بدأ يأكل اللحم وإذا لم ينجح في الصيد يأكل حتى الجيفة مثل الضباع. لم يكن هذا الإنسان يستطيع الكلام فمخه أصغر من المطلوب، ولكن كانت له حياة اجتماعية مع بني جنسه، وكان يستطيع بالصراخ والرقص تنسيق الهجوم على الطرائد خلال الصيد.

عاش جدنا الأول قبل ثلاثة ملايين سنة في أفريقيا، ثم انقرض لتحل محله أنواع أخرى من الإنسان أكثر تطورا لا مجال لذكرها جميعا في هذا المقال، ولكن الإنسان الأخير الذي مهد لظهور الإنسان العاقل أو «هومو سابينس» هو إنسان نياندرتال، الذي عاش حوالي 600 ألف سنة، أي أضعاف ما عاشه الإنسان المعاصر، الذي ظهر قبل 300 ألف سنة، ومن المثير أن الإنسان العاقل عاصر إنسان نياندرتال بل تزاوج الاثنان، ولا يزال الأوروبيون وسكان غرب آسيا وشمال أفريقيا يحملون 2% من جينات ذلك الإنسان، بينما لا نجدها في جينات الأفارقة وسكان الأميركتين وسكان أستراليا الأصليين.

كان متوسط طوله 180 سم يتمتع بجسم قوي مفتول العضلات، مكنه من العيش في أوروبا عندما كانت قطعة من الجليد وتصل درجة الحرارة فيها إلى 20 تحت الصفر، ومع ذلك تمكن هذا الصياد البارع من صيد الماموث والفيلة ووحيد القرن، وعلى الرغم من أن رأسه أكبر من رأس الإنسان المعاصر إلا أنه لم يستطع التكلم، وانقرض بسبب موجة من النشاط البركاني اجتاحت موطنه في أوروبا وغرب آسيا، جعلته يموت جوعا في آخر ملجأ له في كهوف تطل على البحر في جبل طارق، حيث عثر العلماء على أكبر عدد من جماجمه وهياكله العظمية وأسلحته.

إنسان نياندرتال يؤكد أن القوة البدنية وحجم الرأس الكبير لا يكفي للنجاة من الأخطار، وهذا ما تؤكده المنجزات التكنولوجية اليوم فالهاتف الذكي يغني عن ذلك الكمبيوتر الكبير الحجم الذي ظهر في الستينيات، والذي يحتاج إلى التبريد باستمرار، ولهذا انقرض مثلما انقرض آخر جد لنا إنسان نياندرتال، مؤكدا أن تاريخ الذكاء هو تاريخ التكيف مع المتغيرات في محيطنا، وأكاد أجزم أن الإنسان المعاصر مهدد بالانقراض بسبب دوره في تلويث الكوكب، وما هذه التغييرات المناخية إلا التمهيد للكارثة الكبرى، إذا لم يغير سلوكه قبل فوات الأوان، ولكن قبل الوصول إلى يوم القيامة قد تختفي أمم وثقافات لم تستطع التكيف حتى مع التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفشل في بناء الدولة والتنمية.

وربما العرب هم أكثر المرشحين لهذا الانقراض، بينما سيظل الجنس البشري الأذكى فترة أطول، فقد عودنا الإنسان المعاصر على تغيير سلوكه وهو على حافة الكارثة، أما إذا أدت الكوارث الطبيعية والتغييرات المناخية وربما الحروب النووية إلى فناء الجنس البشري، فكوكب الأرض قادر على إصلاح نفسه، وسيمر زمن طويل جدا قبل ظهور كائن آخر أكثر كفاءة لتعمير هذا الكوكب الفريد، الذي لم تظهر الحياة إلا فيه حتى الآن. اليوم نحن في حاجة إلى سفينة نوح متطورة لتنقذ الجنس البشري والحيوانات التي تعيش معه من كارثة تلوح في الأفق، بسبب تهور الإنسان وجشعه وطمعه وعناده وفساد قادته ومعاييره المزدوجة فيما يخص العدل وحقوق الإنسان.