Atwasat

أصدقاء هشام مطر

منصور بوشناف الخميس 02 مايو 2024, 08:54 مساء
منصور بوشناف

بعد تجربة النفي والتهجير في الفترة التركية والإيطالية، لم يأخذ المنفى في الأدب الليبي المساحة المناسبة لما عاناه الليبيون في المنافي في العصر الحديث، فظل الليبيون في منافيهم يرددون أشعار وأغاني أجدادهم الذين عانوا تلك التجربة خلال العصر التركي ثم الإيطالي.

في سبعينيات القرن الماضي بدأ موسم الهجرة الليبية ما بعد الاستعمار، ولم تتجه تلك الموجة نحو البلدان المجاورة كما ظلت تفعل عبر التاريخ، بل توجهت نحو الشمال، نحو أوروبا وأميركا، ولم تكن كبيرة ولا عاتية كما كانت من قبل، بل أخذت شكل التسرب الخفي، اللافت أن مكونها الأساسي كان الشباب المتعلم الذي أوفد غالبه للدراسة في تلك البلدان أو بعض العاملين بالخارجية الليبية.

بعد الثورة الثقافية وخطاب زوارة ثم أحداث السابع من أبريل وحملات الاعتقالات والإعدامات وجد الكثير من الليبيين بالخارج أنفسهم منفيين حقًّا، ومطاردين بفرق الموت الليبية على أراضي منافيهم. كانت أذرع الموت الليبية قادرة على النيل منهم حيثما كانوا، ليجدوا أنفسهم وإن كانوا في أبعد نقطة عن الوطن في معتقلات الوطن وأمام مشانقه المرعبة، فتحولت لندن وروما وأثينا وكل مدن المنفى إلى «زنقة ليبية لاطمة» تطاردهم فيها فرق الموت الوطنية.

المنفى في الأدب الليبي لم يقدمه أولئك المنفيون المطاردون إلا على نحو بسيط للغاية في الشعر، ليظل أدب الداخل المعبر الأهم عن تلك المرحلة من «المنفى» الداخلي والمطاردة عبر أزقة مدن الوطن.

«هشام مطر» كاتب المنفى الليبي بامتياز، منذ روايته «في بلد الرجال» ثم «تشريح الإخفاء» و«العودة» حيث يتجذر المنفى وجدانا ولغة.
عبر «تشريح الإخفاء» و«العودة» يكتب هشام مطر «أوديسا» رحلة الابن بحثًا عن الأب الذي اختفى في الوطن، الذي ضاع في نهر النسيان الليبي «الليثيوس»

كما تقول «أوديسا» هوميروس وليس في بحار المنفى.

إنها تجربة تطواف «ستيفان ديدالوس» لجيمس جويس في العودة والبحث.

في روايته الأخيرة «أصدقائي» يتأمل هشام مطر تجربة ثلاثة أصدقاء ليبيين في المنفى، يتأمل المنفى المكان، والأهم يتأمل الصداقة بين رجال متشابهين ومختلفين في نفس الوقت، صداقة تتجلى له عميقة وحقيقية في لحظة الفراق والوداع الأخير حيث تبدو تلك اللحظة ليست النهاية لتلك الصداقة بل بدايتها، ويتلخص زمنها وزمن تلك الصداقة «ذي العقدين من السنوات» وزمن الرواية في ساعتين من التطواف الديدالوسي «كما تطواف ستيفان ديدالوس في رواية يوليسيس لجميس جويس» عبر شوارع المنفى وتطواف الأصدقاء عبر ليبيا ولندن وباريس، تتمدد الساعتان لتحضنا عقدين من زمن المنفى وتتقلص الأمكنة لتكون لوحات صغيرة معلقة على جدار الذاكرة، في لحظة البداية، لحظة الكتابة تلك تبدأ تجربة الصداقة في التشكل والنمو، تولد وتحيا في النص، فالنص هنا هو التجربة الحقيقية للوجود.
تحين ساعة الوجود لحظة الفراق، يتفرق الأصدقاء الثلاثة، أحدهم نحو الماضي نحو ليبيا، والآخر نحو المستقبل أمريكا ويبقى السارد في الحاضر في «النص» في تطواف ليلي لا يريد له أن ينتهي ولا أن يغادره.

الأصدقاء الثلاثة كانوا قد تورطوا في المنفى، لم يختره أيٌ منهم، فقد جاؤوا ليسوا مهاجرين ولا منفيين بل للدراسة ثم العودة إلى ليبيا، ولكن اعتقال الطلبة وتعذيبهم وإعدام بعضهم، دفعهم للمشاركة في مظاهرة احتجاج أمام سفارة بلادهم حيث تطلق النار عليهم من مبنى السفارة ويصاب اثنان منهم مما يجعلهم مطلوبين لأجهزة الوطن الأمنية ويضطرون جميعًا لدخول عالم المنفى والمطاردة، حيث يتحول المنفى إلى ساحة إعدام لهم تطاردهم فيها فرق الموت عبر أزقة المنفى التي أخذت تضيق عليهم وبهم.

يقتل في الشارع مذيع الـ«بي بي سي» الليبي محمد مصطفى رمضان الذي عرفه السارد وهو يقرأ قصة لكاتب ليبي صار بعد سنوات صديقه الذي ودعه منذ لحظات ليذهب إلى أمريكا.

يُغتال اللبناني «سليم اللوزي» في نفس الوقت ليصبح الوطن العربي كله ساحة اغتيالات وفرق موت تطارد العرب في كل بقاع العالم.

رواية «أصدقائي» لهشام مطر تغوص في تجربة المنفى بمعناه الوجودي، تتأمل تفاصيله وتناقضاته، ليكون شكلًا آخر للوجود الإنساني في هذا العالم، يتحول إلى وطن بقيوده ورعبه، وإلى حميمية وطن عبر أصدقاء، وإلى نص للوجود رغم آلام هذا الوجود، لكأن «جوزيف كونراد ومارسيل بروست وجيمس جويس» يجلسون لقراءته ولكأن «شهرزاد» تسرد ما تبقى قبل أن يدركها صباح المنفى وفراق الأصدقاء.