Atwasat

تشريح القنفذ ـ رسول الصحراء (8)

عمر الكدي الإثنين 09 أكتوبر 2023, 04:05 مساء
عمر الكدي

في كتابها «القذافي رسول الصحراء» أجرت الكاتبة الإيطالية ماريلا بيانكو حوارا طويلا مع القذافي، كما جمعت شهادات لرفاقه عندما كان تلميذا في مدرسة سرت الابتدائية، يقول أحدهم «كنا ثلاثة أو أربعة من البدو ينظر إلينا الآخرون على أننا بؤساء، وكنا فقراء لدرجة لم نكن نتناول طعاما أثناء الاستراحة. كنا نشعر بالغربة لولا القذافي. ربما كنا نخجل من أنفسنا لكنه كان يفخر بوضعنا ويقول «مثلنا مثلهم طالما أننا قادرون على تحصيل العلم»، وكان القذافي ورفاقه يمشون مسافة عشرة كيلومترات يوميا للوصول إلى المدرسة والعودة إلى النجع، وسرت التي مررت بها في رحلة مدرسية العام 1970 كانت مجرد قرية بائسة، فالفندق الذي أقمنا به تلك الليلة وهو أشبه بقلعة عسكرية إيطالية كانت الرمال تحيط به من كل جانب لدرجة أن النزلاء الذين وصلوا في سياراتهم كانوا يطلبون منا المساعدة في دفع السيارات لإخراجها من الرمال، فإذا كانت تلك هي المدينة التي تجعلهم يخجلون من أنفسهم، فماذا سيفعلون عندما يصلون إلى طرابلس.

في ذلك الوقت عندما أجرت معه بيانكو الحوار الطويل، كان القذافي يحمل في عنقه من الجانبين آثار كي، وكان البدو وأيضا في الريفي الليبي يلجؤون إلى الكي لعلاج بعض الأمراض، ولكن في آخر السبعينيات اختفت آثار الكي، فهل شعر القذافي بالخجل من تلك الآثار فأخفاها مستعملا الياقات الطويلة والملابس التي تغطي كامل العنق؟. في حوارها سألت بيانكو القذافي «هل رعيت الغنم؟»، وأجاب القذافي دون تردد «ما من نبي إلا ورعى الغنم». في ذلك الوقت تقريبا العام 1974 كانت لافتات عديدة معلقة في كل مكان عليها عبارة، «حطمت عصا الراعي تاج الملك»، ومنذ ذلك الحين بدأ القذافي يتحول إلى طاغية يستمد شرعيته من العناية الإلهية، ومع الوقت بدأت ذاته النرجسية تتضخم وتناسى عصا الراعي، حتى أصبح ملك ملوك أفريقيا، أما تلك القرية البائسة فتحولت إلى مدينة عصرية تليق باستضافة القمم الأفريقية، أما المدن العريقة فتحولت إلى مكب للنفايات.

في كتابه «القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء»، الذي تعامل معه إعلام القذافي وكأنه بيضة الديك، طلب من فنان عراقي كان يدرس في كلية الفنون الجميلة تصميم ثلاثة أغلفة للكتاب، واختار القذافي أسوأها حسب شهادة الفنان، وطلب من عدد من الكتاب كتابة مقدمة للكتاب، واختار القذافي أيضا أسوأها، ولكن نرجسيته منعته من وضع المقدمة في أول الكتاب وإنما على الغلاف الخلفي، مما جعل الأستاذ علي مصطفى المصراتي يقول للكاتب المحظوظ «عجبتني مؤخرتك». في هذا الكتاب يشن القذافي هجوما حادا على المدينة، التي عاش معظم سنوات حياته فيها، واحتل وحده تقريبا عشر مساحتها، بالإضافة لبيته في حي رأس حسن الذي كانت تقيم به زوجته صفية فركاش، وبيت ابنه البكر محمد الذي كانت تقيم به أيضا زوجته الأولى فتحية خالد، وبيوت أبنائه التي توزعت على أحياء المدينة الراقية، وخاصة حي غرغور الذي قتل فيه ابنه الأصغر سيف العرب في غارة جوية خلال أحداث الثورة العام 2011.

لم يحتمل القذافي مدنية وتحضر فتحية إلا سنة واحدة، وهي تنحدر من أصول تركية ومن عائلة برجوازية، لدرجة أن والدها رفض أن يزوجها له قبل الانقلاب بحجة أنه بدوي، ولكنه خطبها مرة أخرى بعد الانقلاب وكان معه الرئيس عبدالناصر، فوافق والدها دون تردد، ويبدو أن السيد نوري خالد كان تقديره صحيحا، فطلق القذافي فتحية وتزوج سيدة بدوية من قبيلة البراعصة أنجبت له بقية أبنائه، ولكن في الواقع لم يعش القذافي حياة عائلية طبيعية، وإنما عاش وحيدا وسط حريمه من الحارسات، لدرجة أن مبروكة الشريف رئيسة مكتب الخدمات الخاصة كانت «تشرف على شؤونه اليومية والخاصة جدا أكثر من زوجته، بالإضافة إلى ظله مدير المراسم نوري المسماري».

لا أدري لماذا يجذب عالم الكتابة الطغاة من صنف القذافي؟، حتى صدام حسين الذي بعد أن حول العراق إلى كومة من الخراب، جلس على قمتها وبدأ يكتب رواياته التافهة، وبعد أن كتب روايته الأخيرة «أخرج منها يا ملعون» أخرجوه من تلك الحفرة، وكتب عبدالناصر فلسفة الثورة كما كتب السادات كتابه «يا ولدي هذا عمك جمال»، والبحث عن الذات عندما كان نائبا للرئيس، قبل أن يصبح الرئيس ويتخلص من جميع مساعدي عبدالناصر ويتوقف عن الكتابة، وهتلر كتب كتاب «كفاحي»، بينما جاء موسوليني وستالين من عالم الصحافة والكتابة، ليتحولا إلى أغرب طغاة القرن العشرين، وذات مرة استضاف موسوليني الروائي الكبير البيرتو مورافيا في القصر الجمهوري، وعندما أدخل مورافيا على موسوليني استقبله وهو يستعرض سطوته وسلطاته الواسعة، فقال لمورافيا هل تعلم أنني إذا ضغطت على هذا الزر تتحرك قواتي في القرن الأفريقي، وإذا ضغطت على هذا الزر تتوغل قواتي في الصحراء الليبية، فقاطعه مورافيا قائلا ألا يوجد زر تضغط عليه فيحضر أحدهم فنجاني قهوة لنا؟.

في الكتاب الأخضر يتصرف القذافي كمفكر يناقش المفاهيم فلا نرى من وجدانه شيئا، بينما في كتابه القرية القرية الأرض الأرض يكتب كأديب، فيفتح بابا مواربا لنرى وجدانه وخاصة في قصته عن الموت والفرار إلى جهنم، لذلك أعتبره أفضل كتبه على الرغم من أنه لم يستوف المعايير الفنية لفن القصة، فالكتاب يكشف عقدة التمركز البدوي لدى القذافي، فهو مصر على رؤية العالم من الخيمة نفسها التي ولد بها، على الرغم من أننا اكتشفنا أن خلف خيمته التي تظهر دائما في التلفزيون ثمة فيلا فخمة، توجد بها كل وسائل الراحة الحديثة حتى الحمام البخاري والساونا، وسرداب للفتيات الصغيرات اللواتي سيفض بكارتهن بشكل متوحش في غرفة نومه التي لا توجد بها نافذة واحدة، بعد أن تفحص أربع ممرضات أوكرانيات الفتيات للتأكد من خلوهن من الأمراض الجنسية، ثم تتولى معالجة الإصابات والنزيف الناتج عن تلك المضاجعة، بينما القذافي يشتم كل نساء الأرض، والبنات المسكينات يستجدينه أن يرحمهن وهن ينادينه بـ «بابا معمر». في هذا الكتاب يتحدث القذافي عن والده بحب وتقدير، بينما يهمل أمه بالكامل ويبدو أن كل شذوذ القذافي يكمن في هذه النقطة. صحيح أطلق اسم أمه على ابنته الوحيدة ولكن فتيات السرداب كشفن كراهيته الشديدة للنساء، والباب الموارب في كتابه أتاح لنا رؤية تلك الروح المشوهة التي لم تستطع فهم العالم وهي تنظر إليه من خباء بدوي، فلماذا تجاوز بدو الخليج بداوتهم بينما أصر البدوي الليبي على التمسك ببداوته وهو في قلب مدينة عريقة تطل على المتوسط؟.

________________

تشريح القنفذ (7) ـ الحاكم بأمره
تشريح القنفذ (6) ـ وجوه القذافي العديدة
تشريح القنفذ (5) ـ الانقلاب على الرفاق
تشريح القنفذ (4) ـ تحليل شخصية القذافي
تشريح القنفذ (3) ـ القذافي والقنفذ
تشريح القنفذ (2) ـ البدوي الأخير
تشريح القنفذ (1) ـ تحليل شخصية الطاغية