Atwasat

تشريح القنفذ ـ الحاكم بأمره (7)

عمر الكدي الإثنين 02 أكتوبر 2023, 05:11 مساء
عمر الكدي

ثمة شهادات عديدة لم تؤيدها الوثائق بعد، تزعم أن المخابرات المركزية الأميركية جندت القذافي منذ أن أوفد في دورة تدريبية إلى بريطانيا العام 1966. كان الأميركيون خلال الحرب الباردة يسعون لمنع تمدد النفوذ السوفياتي في الدول العربية، وكانوا يدركون أن النظام الملكي في ليبيا يمر بأزمة عميقة، وأن التنظيمات السرية في الجيش تقتنص الفرصة للانقلاب عليه، فبحثوا عن ضابط شاب معادٍ للشيوعية، كما أنهم كانوا على علم بأن العقيد عبدالعزيز الشلحي نائب رئيس الأركان يستعد للقيام بهذا الانقلاب مدعوما من بريطانيا، وخشى الأميركيون من تأثر الشلحي بالخطاب الناصري، فوجدوا ضالتهم في القذافي الملتزم دينيا، ويقال أيضا إن انقلاب الشلحي كان مخططا له يوم 4 سبتمبر، وأن الأميركيين طلبوا من القذافي القيام بانقلاب استباقي يوم الأول من سبتمبر. كل هذا يظل مجرد تكهنات في غياب الوثائق التي لم تظهر حتى في الأرشيف الأميركي على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على تلك الوقائع، ولكن لا ننسى أن القذافي بعد انقلابه هاجم الاتحاد السوفياتي والشيوعية، وعقد صفقة مع الإخوان المسلمين في ليبيا منحهم بموجبها جمعية الدعوة الإسلامية، على أن يعملوا خارج ليبيا، بينما زج في السجون أعضاء حزب التحرير الإسلامي، وبعد أن كشف عن وجهه الحقيقي وبدأ في التسلح من الاتحاد السوفياتي، فعل ما فعله عبدالناصر مع الشيوعيين وهو حليف للسوفيات، وبعد أن تخلص القذافي من أعضاء مجلس قيادة انقلابه بعد خطاب زوارة، قمع مظاهرات الطلبة في جامعتي طرابلس وبنغازي، وفي يوم السابع من أبريل العام 1976 اصطدم بالطلبة داخل الجامعة في طرابلس وبنغازي، وبعد عام أعدم شنقا عمر دبوب ومحمد بن سعود في ميدان عام في بنغازي، وفي العام 1978 اعتقل كتاب جريدة الأسبوع الثقافي وفي العام نفسه ألغى التجارة، وقفل كل المكاتب الخاصة وأمم مصانع وشركات القطاع الخاص، أما الجيش الذي شكل خطرا على سلطته المطلقة فأرسله إلى تشاد.

الخوف من الجيش عقدة كل الطغاة العرب. هذا ما فعله عبدالناصر بالجيش عندما أرسله ليقاتل في اليمن، وأيضا عندما طلب سحب قوات الأمم المتحدة وأغلق مضائق تيران العام 1967 وثلث جيشه لا يزال في اليمن، وعلى الرغم من الهزيمة المدوية واحتلال سيناء، بقى عبدالناصر في السلطة واختفى عبدالحكيم عامر وأنصاره، وهذا ما فعله صدام حسين مع جيشه بعد توقف الحرب مع إيران، فأرسله لاحتلال الكويت وحافظ على الحرس الجمهوري الذي يتكون في معظمه من أبناء عشائر السنة ويقوده ضباط من تكريت، بل إن بصماته واضحة في التخلص من ابن خاله وصهره عدنان خيرالله الذي كان على رأس هذا الجيش. بينما كان الجيش الليبي يهزم في تشاد ويؤسر قائده العقيد خليفة حفتر، أسس القذافي كتائبه الخاصة التي تتكون من أبناء قبيلته والقبائل الحليفة لقبيلته. كتيبة الساعدي يقودها سيد قذاف الدم، وكتيبة إمحمد يقودها البراني اشكال، وفيما بعد قاد ابنه خميس اللواء المعزز 32، كما كانت للمعتصم كتيبة إلا أن القذافي حلها خشية من طموحات ابنه العنيد.

في كتابه «عبدالناصر والثورة الليبية» يسرد ضابط المخابرات المصرية فتحي الديب بالتفصيل ما دار من أحداث، منذ وصوله إلى بنغازي ثالث يوم بعد الانقلاب، وحتى الانتهاء من تأمين ذلك الانقلاب، ويتطرق للصراع داخل مجلس قيادة الثورة، وأيضا الصراع داخل الحكومة بين تيار يحاول الابتعاد عن مصر يقوده رئيس الحكومة محمود المغربي، وتيار يدفع نحو مصر يقوده وزير الخارجية صالح بويصير، وكان من الممكن أن يفشل ذلك الانقلاب نظرا لحداثة سن قادته، وعدم خبرتهم بالحكم وقيادة الدولة، وحدث ما حدث مع ثورة فبراير، حيث تدخلت المصالح الإقليمية ووجهت الأحداث لصالحها.

أشرف فتحي الديب الذي سبق أن كلفه عبدالناصر بملف الثورة الجزائرية على كل التفاصيل. تشكيل الحكومة، والإعلان الدستوري، وتأسيس جهاز المخابرات، والحماية الشخصية لقائد وأعضاء الانقلاب، في الوقت الذي كان فيه صدام حسين عندما كان نائبا للرئيس أحمد حسن البكر يسعى لاحتواء هؤلاء الشباب الذين جاءوا من المجهول، وحتى جعفر النميري الذي قام بانقلابه قبل بضعة أشهر آنذاك حاول احتواء قادة الانقلاب، فكيف كان ينظر الديب لقائد انقلاب سبتمبر. السن ثلاثون عاما تقريبا. يتسم بالاتزان، وتبدو عليه علامات الصلابة وقوة الشخصية والاعتزاز بالنفس. متدين ويقرن أحاديثه بالأسانيد القرآنية. يميل إلى الاستماع أكثر من الحديث، الأمر الذي يظهره بمظهر الإنسان الغامض، ويصعب الحكم على أفكاره لأول وهلة. دلت كثير من الشواهد على أنه يحظى باحترام زملائه من أعضاء مجلس الثورة، وهو على دراية بمجريات الأحداث السياسية في الوطن العربي وتطورها، وإن كان يميل إلى الابتعاد عن تسليط الأضواء على شخصه، كما يبدو لي أن مظهره يعطيه أكبر من سنه. وقبل نهاية شهر نوفمبر انتهت ليبيا من التعاقد مع فرنسا على شراء 110 طائرات ميراج خمسة، و14 طائرة هليكوبتر وشارك في المفاوضات ضباط مصريون يحملون جوازات سفر ليبية، وكانت الصفقة بالكامل لصالح القوات المسلحة المصرية وتكفلت ليبيا بكامل المصاريف بما في ذلك تدريب الطيارين وقطع الغيار والذخيرة.

مما سبق يتبين أن الليبيين غير قادرين حتى على القيام بانقلاب عسكري وتأمينه، فما بالك ببناء الدولة وتحصين مؤسساتها الدستورية، وأن الاعتماد على القوى الإقليمية والدولية سيستمر في تاريخ ليبيا، وهذا ما أكدته الأحداث بعد ثورة فبراير وسقوط نظام ذلك الشخص الغامض، الذي استغل الجميع قبل أن يجد نفسه وحيدا في مواجهة الجموع كما تنبأ في قصتيه عن الموت والفرار إلى جهنم.

________________

- تشريح القنفذ ـ وجوه القذافي العديدة (6)
تشريح القنفذ ـ الانقلاب على الرفاق (5)
تشريح القنفذ ـ تحليل شخصية القذافي (4)
تشريح القنفذ ـ القذافي والقنفذ (3)
تشريح القنفذ ـ البدوي الأخير (2)
تشريح القنفذ ـ تحليل شخصية الطاغية (1)