Atwasat

تشريح القنفذ ـ القذافي والطلبة (10)

عمر الكدي الإثنين 23 أكتوبر 2023, 04:32 مساء
عمر الكدي

أدرك القذافي مبكرا أن الطلبة هم أخطر شريحة على نظامه، لذلك نظم أولا معسكرات الإعداد والتثقيف السياسي للحاصلين على الشهادة الثانوية، وكان يحضر شخصيا لمناقشة الطلبة في المواضيع السياسية والأيديولوجية كافة، وكل من يشتم منه معارضة يحال إلى الكلية العسكرية حيث يخضع لرقابة صارمة، واكتشف فيما بعد عدة خلايا كانت تخطط لقلب نظام الحكم، وفي العام 1973 خرجت أولى مظاهرات الطلبة من جامعة بنغازي ثم طرابلس، وبدأت المعركة مبكرا للسيطرة على اتحاد الطلبة. حاول القذافي استمالة قادة الطلبة دون جدوى.

وفي العام 1976 بدأت المعركة الدموية مع الطلبة يوم السابع من أبريل، حيث اقتحم الحرم الجامعي عدد كبير من الجنود يرتدون الملابس المدنية، ويتسلحون بالهراوات والعصي، وبعد عام أعدم عمر دبوب ومحمد بن سعود شنقا في ميدان عام في بنغازي، وظلا معلقين عدة ساعات بينما يراقب القذافي المشهد من مبنى مجاور، وفيما بعد شنق أعضاء اللجان الثورية كل يوم 7 أبريل عددا من الطلبة في جامعتي طرابلس وبنغازي، واستمرت الإعدامات حتى منتصف الثمانينيات، وألقي القبض على عشرات الطلبة وزج بهم في السجون بعد محاكمات صورية، ولم يخرجوا إلا في أصبح الصبح العام 1988، بينما فضل الكثير من الطلبة الذين أوفدوا للدراسة في الخارج على البقاء هناك وعدم العودة إلى ليبيا، والذين كان لهم دور فيما بعد في تأسيس المعارضة بكافة توجهاتها.

كما أدرك القذافي أن الطلبة شريحة غير منضبطة ويصعب السيطرة عليها، لذلك قرر عسكرة المدارس والمؤسسات التعليمية وفرض التدريب العسكري العام على الطلبة، ووجد الطلبة أنفسهم في طابور عسكري ينفذون أوامر صادرة من جندي لم ينجح في دراسته، ويوجه لهم الإهانات ويصفعهم ويعاقبهم بالوقوف في الشمس عدة ساعات والزحف والغوص في مياه المجاري، وفيما بعد أجبر الطلبة على ارتداء الملابس العسكرية في المدارس، تحت إمرة المعلم الضابط ورئيس عرفاء وعدد من الجنود، ثم نظموا في سرايا وكتائب متخصصة، وتحولوا إلى احتياطي للجيش.

وعندما وجد القذافي أن هذه الطريقة مجدية في استئصال روح التمرد من الطلبة عمم التجربة على الشعب كله، وهكذا بدأ الموظفون والمدرسون والأطباء والمهندسون يتدربون في كل أنحاء البلاد، وهكذا ولد الشعب المسلح وفقا لدعاية القذافي. ولكن في الحقيقة تحول المواطن إلى عسكري لا حول له ولا قوة ولا يملك حتى سلاحه، وذات مرة فرض القذافي على الشعب دفع ثمن البندقية، وبدأت المصارف تستقطع ثمن البندقية على دفعات، الأمر الذي دفع عجوزا من الزنتان للقول «باهي اللي ما قالش ادفعوا ثمن الدبابة».

في مطلع التسعينيات عندما كانت مجلة «لا» تصدر عن رابطة الأدباء والكتاب، اقترحنا معرفة مصير ثمن البندقية، وذهبنا إلى جميع الهيئات الرقابية دون جدوى. لا أحد يعرف مصير مئات الملايين من الدينارات ثمن البنادق، وأخيرا لجأنا إلى رئيس الحكومة المرحوم عمر المنتصر، فقال لنا بلهجته الساخرة، ابحثوا عن ثمن البندقية بعيدا عني نحن في الحكومة لم نتسلم شيئا.

بعض الطلبة من الجنوب كان حظهم أسوأ، فقد جمعوا على عجل في نهاية الثمانينيات من مدارسهم الثانوية، وأجبروا على ركوب الحافلات وهم يرتدون ملابسهم العسكرية، ليجدوا أنفسهم في قلب المعركة في شمال تشاد. قُتل من قُتل وأُسر من أُسر. بعض الأسرى انتموا لصفوف المعارضة وتدربوا تحت إشراف العقيد خليفة حفتر قائد الجيش الليبي في تشاد الذي أسر بعد معركة وادي الدوم وانشق على النظام فيما بعد، ورحلوا معه إلى الولايات المتحدة عندما انقلب إدريس دبي على الرئيس التشادي حسين حبري.

بعد غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان وصلت تقارير أمنية للقذافي تؤكد انضمام أعداد كبيرة من الشباب الليبي للمقاومة الأفغانية، كانوا يسافرون عبر السعودية وباكستان، وعندها أوقف القذافي عسكرة الطلبة وحولهم إلى المشاريع الزراعية والمصانع، فقد أدرك أن هؤلاء سيقاتلون قواته بعد عودتهم إلى ليبيا، كما ألقت قوات الأمن القبض على الشباب الذين يصلون الفجر في المساجد، وكل من أطلق لحيته ولبس ملابس السلفيين، وفي منتصف التسعينيات تجسدت مخاوفه في شوارع بنغازي عندما كشفت الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة وجودها، ومن بنغازي وأجدابيا ودرنة انتقل القتال إلى غابات الجبل الأخضر، وحوصرت درنة وفتشت بيتا بيتا بحثا عن مقاتلين أرهقوا قوات الصاعقة بقيادة اللواء عبدالفتاح يونس، وكلف عبدالسلام الزادمة بإعداد معسكر لإيواء الشباب الجهاديين وإعادتهم إلى حظيرة الطاعة، عن طريق شيوخ السلفية.

كما كلف القذافي ابنه الساعدي بالتحول إلى السلفية بعد فشله في كرة القدم، وبدأ الساعدي يروج للسلفية غير الجهادية التي تحرم الخروج على «ولي الأمر»، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر العام 2001، ألقت المخابرات الأميركية القبض على قادة الجماعة الإسلامية المقاتلة في عدد من الدول الآسيوية وسلمتهم للقذافي، وفي العام 1996 قتل في سجن بوسليم 1250 سجينا معظمهم من الجماعة المقاتلة بعد تمردهم للمطالبة بتحسين ظروف سجنهم، تلك المذبحة التي كانت أحد أسباب ثورة 17 فبراير 2011.

________________

مقالات سابقة في السلسلة
تشريح القنفذ (9) ـ القذافي المراوغ
تشريح القنفذ (8) ـ رسول الصحراء
تشريح القنفذ (7) ـ الحاكم بأمره
تشريح القنفذ (6) ـ وجوه القذافي العديدة
تشريح القنفذ (5) ـ الانقلاب على الرفاق
تشريح القنفذ (4) ـ تحليل شخصية القذافي
تشريح القنفذ (3) ـ القذافي والقنفذ
تشريح القنفذ (2) ـ البدوي الأخير
تشريح القنفذ (1) ـ تحليل شخصية الطاغية