تشريح القنفذ ـ القذافي مهرجًا (22)

تشريح القنفذ ـ القذافي مهرجًا (22)

بدأ التهريج عند القذافي لفظيًا ليتحول فيما بعد إلى نسق متكامل، وخاصة في المرحلة الأفريقية عندما ارتدى ملابسَ غريبة، وتحول إلى ما يشبه مغني البوب، أو، وفقًا لما وصفه به بعض الليبيين، إلى شيشباني، وهي لعبة مارسها الأطفال حتى الستينات في أزقة طرابلس خلال الاحتفال بالمولد النبوي، حيث يغلفون جسد أحد الأطفال بليف النخل، ويعلقون في عنقه عقدًا من أغطية زجاجات المشروبات الغازية، ثم تبدأ جولة الأطفال على البيوت وهم يغنون «شيشباني يا باني هذا حال الشيباني. هذا حاله وحواله ربي يقوي مزاله»، بينما الشيشباني يرقص معتمدًا على عصا يمسكها بيده، وعندما تنصرف ربة البيت لإحضار الفول والحمص كهدية للأطفال، يغنون «مشت تجيب كلاها الديب مشت تجيب اعطيها الصحة»، وإذا امتنعت ربة البيت عن منحهم شيئًا يغنون «الرحى معلقة والمرا مطلقة»، والغريب أن اللعبة جاءت من أفريقيا، لذلك كانت ملائمة لمرحلة القذافي الأفريقية.

التهريج اللفظي بدأ عند القذافي في المرحلة العروبية عندما حاول تعريب العالم. قال للأمازيغ أنتم عرب ما قبل الإسلام ووصلتم إلى المغرب الكبير عن طريق البر فأطلقوا عليكم اسم «البربر»، وتحول اسم جبل نفوسة أو الجبل الغربي حيث تقيم أغلبية الأمازيغ إلى الجبل الغربي، ثم تمادى في تعريب كل شيء تقريبًا وساعده في ذلك بعض المثقفين على رأسهم الدكتور علي فهمي خشيم، وذات مرة زار تونس وألقى كلمة أمام مجلس النواب التونسي فقال إن شكسبير هو الشيخ الزبير*، وعندما ارتفعت ضحكات النواب قال مش وليم أنا أقصد والده الشيخ الزبير، كما قال في إحدى خطبه إن كلمة دزرت أي الصحراء باللغة الإنجليزية مأخوذة من سرت، فعندما وصل الغربيون إلى سرت قالوا «دي سرت»، وهكذا تحولت إلى دزرت، كما قال إن المافيا تحريف لكلمة معفية لأنهم كانوا لا يدفعون الضرائب، وإن الفاشية تحريف للفاسية لأن شعارها الفأس، أما الأنفلونزا فهي «أنف العنزة» فالمصاب بها يصبح أنفه مثل أنف العنزة، والديمقراطية هي ديموكراسي أي الشعب على الكراسي، والبرجوازية هي البرج عاجية، كما ألغى كلمة فلسفة واستبدل بها كلمة تفسير، وتغيرت أقسام الفلسفة في الجامعات إلى أقسام التفسير، واستبدل التقويم أكثر من مرة، فبدلًا من التقويم الهجري غيره إلى وفاة الرسول، ثم غيره بمولد الرسول، كما غير أسماء الشهور فأصبح يناير أي النار، وفبراير شهر النوار، ومارس شهر الربيع، وأبريل شهر الطير، ومايو شهر الماء، ويونيو شهر الصيف، ويوليو شهر الحصاد، وأغسطس شهر هانيبال، وسبتمبر شهر الفاتح، وأكتوبر شهر التمور، ونوفمبر شهر الحرث، وديسمبر شهر الكانون، وهو يعرب العالم أطلق على جزر المالديف اسم «محل الديب»، وجزر القمور أصبحت جزر القمر، وجزر الكناري أصبحت جزر الخالدات، وأمريكا اكتشفها أمير عربي اسمه الأمير كا، وبريطانيا هي بر التنك.

في السبعينات كان القذافي يرتدي الملابس العسكرية مثل تلك التي يرتديها ضباط الجيش، كما ارتدى ملابس مدنية عادية مثل التي يرتديها معظم المواطنين، ولكن في الثمانينات فصلت له بدلات عسكرية خاصة، وألصق على صدره الكثير من النياشين وحمل عصا الشرف، كما اعتمد العباءة الحمراء المصنوعة من وبر الإبل، بالإضافة إلى عباءة عربية تشبه عباءة أمراء الخليج، في البداية كانت خشنة تصنع من الصوف قبل أن يستبدل بها عباءة حريرية.

وفي المرحلة الأفريقية ارتدى نفس الملابس ورسمت خارطة أفريقيا على صدره، ومع توغله في أفريقيا ازدادت غرابة ملابسه، حتى تحولت إلى كرنفال من الألوان الصاخبة مثل تلك التي ارتداها وهو يصافح الرئيس الأمريكي أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بينما ينظر إليه أوباما باستغراب، ولا أدري هل أوباما كان يعلم أن القذافي كان يطلق عليه اسم بركة حسين بوعمامة أم لا، وكان الليبيون قد تماهوا مع القذافي في تغيير أسماء زعماء العالم، فأطلقوا على كيسنجر اسم مفتاح الغناي وعلى الرئيس بيل كلينتون اسم بلعيد الككلي، وأطلقوا على القذافي العديد من الأسماء من بينها بوعجيلة، وعندما ألقى الأمريكيون القبض على الرئيس البنمي نورييغا، أطلقوا على القذافي اسم بونويقة، كما أطلقوا عليه اسم بوعبا حمراء، وقال أحد الشعراء «يا بوعبا حمراء دونك ثلاثة ملايين اثنين فلسوا والثالث مشى يداين»، بينما أطلق عليه السادات «الواد المجنون بتاع ليبيا»، وبعد اغتيال السادات أطلق عليه القذافي لقب «السادات المقبور»، وأطلق على عُمان اسم مربط الحمير، وتشاء الصدف أن يلجأ معظم أفراد عائلة القذافي إلى عُمان بعد سقوط نظامه.

______________

* الواقع أن هذه ليست من «بدائع» القذافي. أذكر أنني قرأت مقالًا في مجلة «العربي» أوائل الستينات يورد فيه كاتبه هذه «البديعة». (المحرر)

________________

عناوين ذات صلة