Atwasat

تشريح القنفذ ـ القذافي والإعلام (15)

عمر الكدي الإثنين 27 نوفمبر 2023, 04:39 مساء
عمر الكدي

كانت الصحافة مزدهرة في ليبيا قبل انقلاب القذافي منذ أن صدرت أول صحيفة في تاريخ ليبيا «طرابلس الغرب»، عام 1866 في العهد العثماني الثاني، وسبقتها في الصدور صحيفة «المنقب الأفريقي» عام 1827 التي أصدرها عدد من القناصل الأوروبيين باللغة الفرنسية، ووصلت الصحافة الليبية إلى ذروتها في العهد الملكي، واستقطبت كبار الصحفيين العرب، قبل أن يصدر قرار من «مجلس قيادة الثورة» بعد انقلاب القذافي بقفل جميع الصحف الخاصة، ومنذ ذلك الوقت لم يبق في الساحة إلا صحف النظام.

يكاد يكون القذافي ظاهرة إعلامية صنعها المذياع ثم عمقها التلفزيون. عن طريق المذياع تشكل وعي القذافي السياسي والأيديولوجي وهو يستمع إلى إذاعة صوت العرب من القاهرة، وليس صدفة أن يتخصص في سلاح الإشارة بعد تخرجه في الكلية العسكرية، ويحصل على دورة تدريبية في لندن عام 1966، وأن يسيطر الانقلابيون على إذاعة بنغازي ليبث القذافي منها بيانه الأول، كما ساعد توريد أجهزة اتصال لاسلكية للجيش الليبي على نجاح الانقلاب، فلأول مرة يتمكن الانقلابيون من الاتصال الآمن بين طرابلس وبنغازي ليلة الانقلاب، لذلك حرص القذافي على حراسة مبنى الإذاعة في طرابلس وبنغازي بدبابتين وعدد كبير من الجنود، ويمنع الدخول إلا بإذن مسبق، وأصدر القذافي عدداً من الصحف عن وزارة الإعلام في بداية عهده منها صحيفة الفجر الجديد، ثم صحيفة الأسبوع الثقافي وصحيفة الأسبوع السياسي، ومع تشكيل اللجان الثورية آلت هذه الصحف لها باستثناء الفجر الجديد، التي تحولت إلى نشرة إخبارية تصدر عن وكالة الأنباء الليبية، وصدرت عن اللجان الثورية صحيفتا الزحف الأخضر والجماهيرية، بالإضافة إلى مجلة الجماهيرية، وسمح للنقابات بإصدار مطبوعات أسبوعية وشهرية، بشرط أن تتناول فقط مشاكل الشريحة التي تمثلها، وفي عام 1991 صدر عدد واحد من صحيفة الصحافة عن نقابة الصحفيين ولكن القذافي أمر بإيقافها، وفي نفس الوقت أشرف القذافي بنفسه عام 1989 على إصدار مجلة لا، وهو من اختار هيئة تحريرها المكونة من اثنين من السجناء اللذين أفرج عنهما قبل سنة واحدة، بالإضافة إلى الصادق النيهوم وفوزية شلابي وعبدالله عثمان، وطلب منهم رفع سقف حرية التعبير وتوجيه النقد لكل شيء، وفي العدد الرابع صادر القذافي مقالاً للصادق النيهوم، فوجدها النيهوم مبرراً للتوقف عن الكتابة في المجلة، وبعد سنتين حول القذافي المجلة لتصدر من رابطة الأدباء والكتاب حتى توقفها عام 1995 ثم عاودت الصدور أثناء تولي أمين مازن الأمانة العامة لرابطة الكتاب، ثم توقفت بالكامل بعد سنوات قليلة، وهي أكثر المجلات التي رفعت سقف حرية التعبير إلى الحد الأقصى، ولكن كانت توزع فقط عشرة آلاف نسخة، واضطر طلبة الجامعة إلى تصويرها.

كما صدرت في مطلع التسعينيات صحيفة جديدة عن المؤسسة العامة للصحافة اسمها صحيفة الشمس، وكتب على صفحتها الأولى «صحيفة حائطية أصدرها الطالب معمر القذافي في مدرسة مصراتة الثانوية»، وشعارها هو نفس الشعار القديم «الشمس تشرق على الجميع»، قبل أن تظهر مؤسسة الغد التي أسسها سيف الإسلام القذافي وتكتسح جماهيرية والده، وصدر عن مؤسسة الغد صحيفتا أويا وقورينا، وقناة الليبية وقناة رياضية، وطلب سيف الإسلام من المسؤولين عن الصحيفتين والقناتين رفع سقف حرية التعبير دون حدود، ولكنه لم يوفر لهم الحماية الكاملة، فذات مرة استدعى القذافي رئيسي تحرير صحيفتي أويا وقورينا وهددهما بالشنق، وأنهما لن يجدا من يحميهما منه، وكان القذافي في الثمانينيات والتسعينيات يتحكم في كل شيء، بحيث يستطيع من مكتبه قطع البث التلفزيوني إذا تبرم مما يعرض على التلفزيون، وكان يضع صورة حذاء في وجه المشاهدين، قبل أن يستبدله بجرار زراعي، ويكتب تحته «مع تحيات مشاهد»، ونشر القذافي عدة مقالات في صحيفة الجماهيرة بأسماء مستعارة أشهرها «عامر عبد الله»، ينتقد فيها ما يشاء، وكان المقال عندما يصل من القيادة إلى الصحيفة تعلن حالة الطوارئ، ويرسل المقال إلى المطبعة مع توصية بأن المقال للقائد، وبعد طباعة المقال في المطبعة يمر على التدقيق اللغوي، وتصحح الأخطاء اللغوية والإملائية قبل أن يرسل المقال المصحح مرة أخرى إلى القيادة للموافقة على التصحيح، وأخيراً يعتمد المقال ويرسل إلى المخرج ليتفنن في إخراجه، بينما رئيس التحرير يكاد قلبه يتوقف.

كان القذافي يرى أنه لن يكرر خطأ عبدالناصر بتأسيس إعلام قوي، ليهاجم عبدالناصر بعد وفاته، وأن الإعلام يجب أن يظل تحت المطرقة حتى لا يتنفس الصعداء، ولهذا كان مدير وكالة الأنباء يبدأ يومه بشرب القهوة في مكتب النائب العام، الذي يحقق معه في نشرة أخبار البارحة، ولماذا نشر الخبر الأول بدلاً من الخبر الثالث، ولم تستقر الأمور إلا في الفترة التي تولت فيها فوزية شلابي وزارة الإعلام، التي كانت تديرها من مقري وكالة الأنباء، والإذاعة والتلفزيون، حيث تجلس هناك من الصباح وهي تشرف على إنتاج نشرة أخبار التاسعة والنصف التي لن يشاهدها إلا مشاهد واحد هو معمر القذافي.
ولم تشكل وسائل الإعلام التي أحكم القذافي سيطرته المطلقة عليها أي خطر على نظامه، وإنما جاء الخطر من العالم الافتراضي الذي يجهله، وربما بخس خطورته باعتباره عالماً افتراضياً، فمن الفيس بوك والبالتوك خرجت الانتفاضة التي أنهت حكمه، وأذكر قصة طريفة تلخص إعلام القذافي. كنت ألتقي من حين لآخر بمحرر يعمل في إذاعة صوت الوطن العربي الكبير صوت اللجان الثورية، أسأله عن الإذاعة، فيقول لي الإذاعة ليست ملتقطة في الوطن العربي الكبير، وإنما ملتقطة في الدول الأفريقية، بسبب عطل في الموجات السنتمترية، وأنهم كاتبوا الجهات المختصة بذلك دون جدوى، وبعد أن غضب القذافي من العرب بسبب الحصار وتوجه إلى أفريقيا، أطلق على تلك الإذاعة اسم صوت أفريقيا، وعندما التقيت بنفس المحرر سألته عن الإذاعة، فقال لي تم تصليح الموجات السنتمترية فأصبحت الإذاعة ملتقطة في الوطن العربي وليس في أفريقيا.

كانت نشرات الأخبار لا يفهمها إلا الليبيون، فالقاهرة أصبحت المقهورة، وحسني مبارك أصبح حسني البارك، وجعفر النميري أصبح اسمه الذيل نميري، وبريطانيا أصبح اسمها حاملة الطائرات الأمريكية الثابتة، ومارغريت تاتشر قاتلة الأطفال، ورونالد ريغان الكلب المسعور، واتفاقية كامب ديفيد أصبحت اتفاقية اسطبل داوود، والمعارضة اسمها الكلاب الضالة، وعُمان اسمها مربط الحمير وغيرها من أسماء مختلفة، مما جعل إعلام القذافي مثل مجنون يخاطب نفسه في المرآة، الأمر الذي أجبر وكالة الصحافة الفرنسية على إصدار قاموس يترجم هذه المصطلحات.

وفقاً لشهادة العميد فرج خليفة من حراس القذافي، أن قرار الخروج من طرابلس اتخذ بعد أن فقد القذافي السيطرة على الإذاعة، وعندما وصل موكبه قرب ترهونة استفسر عن إذاعتها، فأبلغوه أنها إذاعة محلية، وفي بني وليد استفسر عن إذاعتها فأبلغوه بأنها متوقفة عن العمل، فلم يبق أمامه إلا إذاعة سرت، حيث انشغل في تسجيل خطابات موجهة إلى الليبيين، وعندما فقدوا السيطرة على إذاعة سرت نجحوا في إرسال الخطابات إلى قناة الرأي في دمشق، التي كان يديرها العراقي مشعان الجبوري قبل أن تتوقف. كل هذا يؤكد أن القذافي كائن إذاعي يؤمن بأن قوة صوته فقط قادرة على تحقيق النصر، ولم يدرك أن مياهاً كثيرة مرت من النهر، وأن أجيالاً جديدة لم تعد تستمع للإذاعات وغرقت بالكامل في مواقع التواصل الاجتماعي.

________________

مقالات سابقة في السلسلة
-- تشريح القنفذ (14) ـ القذافي والمثقفون
تشريح القنفذ (13) ـ أيديولوجيا القذافي
​- تشريح القنفذ (12) ـ ثقافة القذافي
تشريح القنفذ (11) ـ القذافي مفكرًا
​- تشريح القنفذ (10) ـ القذافي والطلبة
تشريح القنفذ (9) ـ القذافي المراوغ
تشريح القنفذ (8) ـ رسول الصحراء
تشريح القنفذ (7) ـ الحاكم بأمره
تشريح القنفذ (6) ـ وجوه القذافي العديدة
تشريح القنفذ (5) ـ الانقلاب على الرفاق
تشريح القنفذ (4) ـ تحليل شخصية القذافي
تشريح القنفذ (3) ـ القذافي والقنفذ
تشريح القنفذ (2) ـ البدوي الأخير
تشريح القنفذ (1) ـ تحليل شخصية الطاغية