Atwasat

تشريح القنفذ ـ القذافي واللجان الثورية (21)

عمر الكدي الإثنين 08 يناير 2024, 07:36 مساء
عمر الكدي

اعتمد القذافي منذ البداية النسخة المصرية من الاتحاد الاشتراكي «تحالف قوى الشعب العاملة»، كتنظيم سياسي يحتكر ممارسة السلطة في البلاد، وكان قد رفع شعار «من تحزب خان» بعد انقلابه مباشرة. كانت الخطوة خطوة موقتة تكفي لتأمين نظامه في السنوات الأولى، وفي هذه السنوات تكاثر رجال الاتحاد الاشتراكي. كانوا جميعًا يرتدون ما عرف شعبيًا ببدلة الاتحاد الاشتراكي، وهي أيضًا النسخة المصرية من البدلة العتيدة. كانوا يجيدون تنظيم مظاهرات التأييد «للثورة» وقائدها، والتنديد بأعدائها من رجعيين واستعمار وإمبريالية وصهيونية، واختراع هتافات تناسب المرحلة، وعلى هذا الصعيد برز علي مرسي الشاعري الذي سيصبح فيما بعد، وزيرًا للتعبئة الجماهيرية ووزيرًا للإعلام والثقافة ووزيرًا للشباب والرياضة. كان يتجول في المدارس ويحرص على حضور طابور الصباح، ويعترض إذا رفع العلم ببطء، فالنصر يأتي سريعًا وحاسمًا، ويعترض إذا أنزل العلم بسرعة، فالهزيمة إذا حلت فستحل ببطء شديد، ثم ينخرط في سلسلة هتافات منوعة على شاكلة «على المبادئ ما نتخلى ولو عادينا العالم كله»، و«تبي والا ما تبيش من غير معمر ما فيش». استفاد الشاعري من مولده في مصر ومعاصرته للظاهرة الناصرية، وعاد لليبيا ليعمل ممرضًا في الجيش الليبي، وخلال الجنازة الرسمية لمساعد رئيس الأركان الذي وجد مقتولًا في سيارته ببنغازي، كان الشاعري يرتمي على القبر وهو يصرخ «ادفنوني معاه»، ولكن بعد انقلاب القذافي توقف عن الحقن في العضل، وأصبحت حقنه تصل على شكل موجات صوتية من الهتافات.

في الاتحاد الاشتراكي تولى الصادق النيهوم أمانة الفكر والثقافة، والقذافي بطبعه لا يحتمل وجود نجم مثل النيهوم في هذا التنظيم، كما أن الاتحاد الاشتراكي يمكن أن ينقسم إلى أجنحة، ففي ندوة الفكر الثوري عام 1970 صنف البعض عمر المحيشي باعتباره ممثل اليسار في المجلس الانقلابي، بعد ملاسنته مع الصادق النيهوم، وبالتالي سيصبح المحيشي مثل خالد محيي الدين في النظام الناصري، وهو أيضًا ما لا يحتمله القذافي. يريد القذافي تنظيمًا يضم قطيعًا لا يفكر بل يبادر بالتنفيذ، وبعد هروب المحيشي وخروج النيهوم إلى سويسرا بالاتفاق مع القذافي، تفرغ الأخير لبناء «حركته الثورية»، بالرغم من أن اللجان الثورية لم ترد في الكتاب الأخضر، وهو ما يؤكد أن القذافي لم يفكر منذ البداية في تأسيس نظرية أيديولوجية متماسكة بعض الشيء، وتأسيس تنظيم سياسي يتغذى من النظرية مثل الأحزاب الشيوعية وحزب البعث، وإنما كان يفكر في الانفراد بالسلطة بأي طريقة تلفيقية، وفي عام 1978 تأسست الحركة بشكل رسمي، وأحيل الاتحاد الاشتراكي على التقاعد. كلف العقيد محمد المجدوب برئاسة مكتب الاتصال باللجان الثورية، وفتحت مثابات ثورية في كل أرجاء البلاد. كانت مهمة اللجان الثورية تحريض الجماهير على ممارسة السلطة، وتوعيتها للقيام بذلك، واكتشاف وسحق كل القوى الرجعية، واحتكار الإعلام وتحويله إلى أداة للدعاية للثورة، ومراقبة اللجان الشعبية في تنفيذ ما يوكل إليها من مهام. في الحقيقة تحول أعضاء اللجان الثورية إلى مخبرين غير مموهين، فجميعهم تقريبًا يرتدي ملابس تشبه ملابس القذافي، ويتحدث بلهجة تشبه لهجة القذافي، فالبقرة لا تنطق بقرة وإنما إبقرة.

يتكون مكتب الاتصال باللجان الثورية من شعبة الإدارة، التي يوجد بها مكتب المنسق والقسم المالي، وشعبة الإعلام والتثقيف والتعبئة وتضم صحيفة الزحف الأخضر وصحيفة الجماهيرية ومجلة الجماهيرية، ومنذ عام 1992 انتقلت صحيفة الجماهيرية للمؤسسة العامة للصحافة، وشعبة المؤسسات التعليمية، والشعبة العسكرية التي تضم كل أعضاء الحركة في المؤسسة العسكرية، كما يضم المراكز العقائدية التي يتدرج فيها التلاميذ من براعم وأشبال وسواعد الفاتح، وهؤلاء تركوا لمحاضرات يلقيها رجب أبودبوس وأحمد إبراهيم وعلي الشاعري وموسى زلوم، وبشير حمبد وأنشئت المثابة العالمية التي تضم تقريبًا جميع حركات التمرد في العالم، والتي أدارها موسى كوسا لسنوات طويلة، إلا أنها لم تكن تتبع مكتب الاتصال بشكل مباشر، نظرًا لطبيعتها السرية التي استغلت في اغتيال المعارضين في الخارج، والقيام بعمليات إرهابية ضد أهداف أجنبية.

في ليلة الغارة وقبل أن يعرفوا مصير القذافي سارع أعضاء اللجان الثورية إلى المثابات لحرق ملفاتهم، وظهروا في اليوم الثاني بعد أن اطمأنوا على مصير قائدهم وانتشروا في الشوارع يحملون أسلحتهم، وشاركوا في كل الإعدامات مثل إعدامات الجامعة كل يوم 7 أبريل، كما شاركوا في إعدامات عام 1984، بالإضافة إلى إعدامات المحاولة الانقلابية للعقيد مفتاح قروم عام 1993، كما يضم مكتب الاتصال المحكمة الثورية، وهي محكمة لا يوجد بها قاضٍ أو محامٍ، وهي أشبه بالمحاكم الإسلامية في إيران.

مع ظهور مؤسسة الغد التي قادها سيف الإسلام القذافي، ونقده للجان الثورية والقطط السمان، بدأ الكثير من أعضاء اللجان الثورية في القفز إلى مركب سيف الإسلام، فقد شعروا أنهم مستهدفون في المرحلة القادمة وقد يكونوا كبش فداء. الذي كان صادقًا منهم ابتعد عندما اكتشف أنه كان يعمل في مزرعة القذافي التي ستؤول لابنه، وبعضهم تحصل على ما يبغي وانصرف للبزنس. أين حركة اللجان الثورية اليوم؟ سقط الاتحاد السوفياتي ولكن بقى الحزب الشيوعي، وحتى في دول شرق أوروبا التي حكمتها الأحزاب الشيوعية، عادت هذه الأحزاب لتحتل حيزًا من الخارطة الحزبية في بلدانها، أما حركة اللجان الثورية فقد اختفت بمجرد اختفاء قائدها، مثلما اختفى التنظيم الطليعي بعد وفاة عبدالناصر، وهذا طبيعي لحركة لم تنتج مفكرًا واحدًا ولا مثقفًا واحدًا، إلا إذا اعتبرنا أحمد إبراهيم أو المهدي امبيرش أو ميلاد الفقهي أو عيسى عاشور مفكرين، بل إن مثقفًا واعدًا في بداياته مثل رجب أبودبوس الذي بدأ بالفلسفة الوجودية مثل سارتر انتهى إلى مفكر لا يفكر.

في مطلع الثمانينات أصدرت المحكمة الثورية حكمًا بإعدام عضو بارز باللجان الثورية يدعى محمد الفرجاني، بتهمة تشكيل تنظيم سري داخل اللجان الثورية، يهدف لقلب نظام الحكم، ونفذ الحكم فورًا. كان الفرجاني على علاقة بفتاة واعدة تدعى زاهية محمد علي من مدينة المرج، تخرجت من قسم الإعلام بكلية الآداب بجامعة بنغازي عام 1985، وعندما رآها القذافي طار عقله ولكنها رفضته، وعندما علم بعلاقتها بالفرجاني قرر إعدامه، وبالرغم من حداثة تخرجها إلا أنه عينها مديرة لوكالة الأنباء الليبية، وفي نفس السنة توفيت في حادث مروري على طريق سرت، وتركت ديوانًا شعريًا بعنوان «الرحيل إلى مرافئ الحلم»، كانت ترثي صديقها المقتول:
على بعد خطوة واحدة من حنيني
استدار الرصاص إليه
يعذبني وجهه وتلك العيون الحبيبة
حين تجيء في هدأة الليلْ
فتوقظ فيّ طائر
المساء الجميلْ
شهوةً للرحيل
ورغبة في البكاء
يجذبني الحلم المستحيلْ
فتعشوشب الذاكرة.

في أول التسعينات جمع صديق لها قيادي في شعبة الإعلام والتثقيف جميع كتاباتها لتصدر في كتاب، وما إن صدر الكتاب حتى انقلب مكتب الاتصال، بعد أن جمعت جميع نسخ الكتاب وأتلفت، وعندما لم يجدوا شيئًا ذا بال باستثناء مراثيها لحبيبها، قالوا إن المرحومة كانت مقربة من القائد، وقد تكون تسربت منها بعض المعلومات الخطيرة، ولكن ما حدث فضح الحكم بإعدام الفرجاني، وألقى بشبهات على الحادث الذي أودى بحياة زاهية.

ما أنفق من المال العام على هذه الحركة كان من الممكن أن ينقل ليبيا نقلة نوعية، وبالرغم من ترجمات الكتاب الأخضر التي نافست ترجمة الكتب المقدسة، إلا أن العائد كان بائسًا بل منعدمًا، بالرغم من إطلاق اسم الجماهيرية الثانية على بوركينا فاسو عندما كان يقودها توماس سنكارا، إلا أنه مثلما كان الملك إدريس الأول هو آخر ملك في ليبيا، فإن جماهيرية القذافي هي آخر جماهيرية برجعاجية بدوية وراثية في التاريخ.

إن التحالف الحالي بين أنصار القذافي ولصوص المال العام المسيطرين على السلطة في طرابلس، وتحالفهم مع نسخة شبيهة بالقذافي ببعدها العسكري والقبلي في شرق البلاد، يؤكد طبيعة المنتمين لحركة اللجان الثورية، باختصار هي حركة غير قادرة على النقد الذاتي، لأنه لا يوجد أساس متين لها يسمح بهذا النقد.

________________

مقالات سابقة في السلسلة
تشريح القنفذ (20) ـ القذافي والنساء
تشريح القنفذ (19) ـ القذافي متنبئا
​- تشريح القنفذ (18) ـ شجاعة القذافي
تشريح القنفذ (17) ـ ذكاء القذافي
​- تشريح القنفذ (16) ـ القذافي والفن
تشريح القنفذ (15) ـ القذافي والإعلام
​- تشريح القنفذ (14) ـ القذافي والمثقفون
تشريح القنفذ (13) ـ أيديولوجيا القذافي
​- تشريح القنفذ (12) ـ ثقافة القذافي
تشريح القنفذ (11) ـ القذافي مفكرًا
​- تشريح القنفذ (10) ـ القذافي والطلبة
تشريح القنفذ (9) ـ القذافي المراوغ
تشريح القنفذ (8) ـ رسول الصحراء
تشريح القنفذ (7) ـ الحاكم بأمره
تشريح القنفذ (6) ـ وجوه القذافي العديدة
تشريح القنفذ (5) ـ الانقلاب على الرفاق
تشريح القنفذ (4) ـ تحليل شخصية القذافي
تشريح القنفذ (3) ـ القذافي والقنفذ
تشريح القنفذ (2) ـ البدوي الأخير
تشريح القنفذ (1) ـ تحليل شخصية الطاغية