Atwasat

ترحال:الثورة والثور والراكب والمركوب

محمد الجويلي الثلاثاء 17 مارس 2015, 08:59 صباحا
محمد الجويلي

منْ لا يعجبه الربط بين الثورة والثور مخطيء إذا كان يعتقد أنّ هذا الربط يسيء إلى الثورة. أولا لأنّ للثور فضائلَ كثيرةً، مثله مثل الحمار، لا يسمح السياق بذكرها كلّها ونقتصر فقط على فضيلة الصبر لديه"صبر أيوب" التي جعلته يكون من الفاتحين الأوائل والذي لولاه لما استطاع العرب والمسلمون فتح الثغور والجبال الوعرة: طورا بورا في أفغانستان وجبال الأطلس في شمال أفريقيا وشواهق أوروبا الجنوبية وتركمستان التي لا يقوى الخيل المدلّل الذي أطنبوا في الافتخار به ومديحه في أشعارهم على وطئها والولوج إلى مسالكها. الثور، إذن، مثله مثل الحمار[والبغال بالطبع] والإبل كذلك قد لعب دورا ثوريا في تاريخ الإنسانيّة لا يقلّ أهميّة عن الثورة الفرنسيّة والثورة الروسيّة والثورة الجزائريّة ضدّ الاستعمار الفرنسي وأخيرا الثورات العربية الأخيرة ذاتها التي نعرف مدى صداها في العالم برمّته وما أفرزته من ظواهر قد يعجز العقل الإنساني بما راكمه من تجارب عن فهمها!

يعتقد علماء الحيوان (zoologists) وعلماء الإنسان (anthropologists) أنّ الثور من الحيوانات المحرّكة (motors)

يعتقد علماء الحيوان (zoologists) وعلماء الإنسان (anthropologists) أنّ الثور من الحيوانات المحرّكة (motors) هكذا يصفونها قد لعب دور المحرّك الآلي أو الكهربائي قبل الثورة التكنولوجيّة في الأزمان الغابرة. فعندما استطاع الإنسان أن يروّض الثور ويدجّنه و يحرمه من حريّته التي كان يتمتّع بها طليقا في الطبيعة ويسخّره لخدمته، لا سيما في جرّ المحراث و فلح الأرض استطاع أن يراكم الإنتاج وينعم بالاستقرار ويبني ملجأ له يسكن إليه ويتزوّج كيف ما كانت طبيعة هذا الزواج ويبني عائلة ويتحضّر تدريجيّا ويبتعد شيئا فشيئا في نمط عيشه، بل في هيئته وهندامه، عن الحيوانات الأخرى بما في ذلك الثور ذاته ويقترب تدريجيا من إنسانيته التي نعرفها عليه الآن على الأقلّ في مستوى المظهر وليس الجوهر، فالجوهر لعلّه ظلّ هو هو، بل ازداد حيوانية وتوحّشا، ومعنى ذلك أن الثورقد ساهم بقسط وافر في أنسنة الإنسان وترويض الحيواني والمتوحّش فيه، وبعبارة أخرى في تصيير الإنسان إنسانا جديرا بهذه التسمية. فهل يمكن لعاقل أن يجرّد الثور من ثوريته التي قد لا تضاهيها ثوريّة تشي غيفارا وماوتسي تونغ وهوشي مينه وغاندي ولومومبا ومانديلا وغيرهم من ثوّار الإنسانية الكبار ولعلّ هذه المكانة المتميّزة للثور التي حفظتها الذاكرة الإنسانيّة هي التي جعلت بعض الشعوب تعبد الثوركما عند أجدادنا في شمال أفريقيا الكبش في فجر التاريخ وهذا موضوع آخر يطول فيه الحديث.

لست من علماء اللّغة والدلالة والفيلولوجيين حتّى أبتّ في أصول الجناس كما يسمّيه علماء البلاغة العرب القدامى بين الثورة والثور، جناس غير تام حتى أكون أكثر دقّة، هل هو اعتباطي مثله مثل العلامة اللّغويّة عند فردنان دوسويسر؟ أم أنّ ثمّة واوا في المسألة وللثور والثورة علاقة دلاليّة تفسر الجناس بينهما؟. كنت أتمنّى أن يطلق العرب على مؤنث الثور ثورة بدل بقرة ويعفوني من مشقّة تأويل قد يعارضني فيه أهل الذكر من المختصين. لكن هذا لا يمنعني من أن أجد للثور والثورة صلات وثيقة عندنا العرب التي تجعل من ثوراتنا الأخيرة تتميّز عن كلّ ثورات الشعوب الأخرى في العصر الحديث.

فالثور عنيد وعندما يغضب لا يتردّد في استعمال قرونه وعندما ينفلت لا أحد بإمكانه أن يقف أمامه دون أن يعرّض نفسه للرفس والدّهس واسألوا أصدقاءنا الأسبان فهم أدرى منّا بالثور عندما تثور ثائرته فلا يكتفي بمجرّد الرّفس والعفس، بل ويعمل قرونه في ضحيّته ويدميه وقد يجهز عليه ويتلفه على آخره. أمّا من يركبه فحدّث ولا حرج فقد يجرى"و يبرطع" وينتفض به ليرمي به شرّ رمية قد تتسبّب في كسر عظامه، وهذا أخفّ الأضرار– إذا لم تقذف به مباشرة على حافة القبر! ومن يساوره شكّ في ذلك فليجرّب حظّه حتى مع الثيران الاصطناعيّة الموجودة في أماكن الألعاب والترفيه المخصّصة للصبيان وليشاهد كيف يستعصى الثور على أعتى الفتيان وأمهرهم في الركوب عليه ويلقي به طال الوقت أم قصر طريحا مستلقيا على ظهره إذا لم يكن على بطنه في وضح لا يحسد عليه!

فللثور والثورة سمات مشتركة كثيرة بينهما لا يعرفها إلاّ من يركبهما ولعلّ هذا ما يفسّر الجناس بينهما! كلّ ما يفعله الثور براكبه، تفعله الثورة براكبها فحذار إذن من ركوب الثورة.

كثر الحديث في بلدان الثورات العربية الأخيرة عن المتسلّقين والراكبين على الثورة ولكن لم يحدّثني أحد ولم أستمع إلى أحد يتحدّث عمّن تركبهم الثورة. في تاريخ الشعوب ركبت الثورات الكثير من رجالها ونسائها الذين كانوا من أعلامها والمخطّطين لاندلاعها والساهرين على نجاحها. ركبت الثورة الروسيّة تروتسكي قائد الجيش الأحمر ومؤسسه، الجيش الذي ساهم بعد ذلك- بعد أن انتهى قائده لاجئا هاربا في أمريكا الوسطى قبل أن يقع اغتياله في مكسيكو- في تحرير أوروبا والعالم من النازية. وفيما يهمّنا مباشرة ركبت الثورة كثيرا من الثوار الكبار والصغار الذين كانوا أحد أركانها ومخطّطيها ومنظّريها.

في أفريقيا نستحضر باتريس لومومبا الذي كان أحد مفجّري الثورة الكنغوليّة ضدّ الاستعمار البلجيكي الأوروبي الناهب لأرض المعادن الثمينة وانتهى به الأمر بعد أن باعه رفاق الأمس إلى جلاديه ليقتلوه شرّ قتلة.

وغير بعيد عنّا ركبت الثورة الجزائريّة أحد أهمّ رموزها أحمد بن بلّة أوّل رئيس للجزائر الحرّة عندما انقلب عليه جيش جبهة التحرير الوطني بقيادة بومدين ليودع الإقامة الجبريّة مركوبا عليه من الثورة لمدّة خمس عشرة سنة قبل أن يفرّ بجلده منفيا باختياره وشريدا يتنقل بين سويسرا وبلدان أخرى في العالم. حال بن بلّة كان على أيّ حال أفضل من المناضل المغربي المهدي بن بركة الذي اختطف واغتيل في ظروف غامضة إلى اليوم. قيل أنّ ذلك بتدبير من الجنرال السيء الذكر"أوفقير" وصالح بن يوسف، أحد رموز الثورة التونسيّة المغاربية ضدّ الاستعمار الفرنسي، دفع ثمن ثورته التي رآها بورقيبة مبالغا فيها بقدر ما لا تراعي طبيعة البلاد وخصوصيتها وموازين القوى غير المتكافئة مع فرنسا، تسعى إلى أن تكون الثورة التونسيّة جزء لا يتجزّأ من الثورة المغاربيّة فكان مآله كما نعرف أن ينتهي مقتولا في أحد الفنادق في ألمانيا. الثورات العربيّة الأخيرة هي أوّل ثورات في العالم دون قيادات كلاسيكيّة فرديّة، إذا كان لها قائد حقيقي فلن يكون إلاّ في صيغة الجمع: شباب الفايس بوك والمدوّنون ومغنّو الراب، هذا النوع من الغناء الذي يراه الثوريون الكلاسيكيون وثوريو المقاهي مرادفا للميوعة والانحلال والتغريب وتعبيرا منحرفا لجيل لا يُرجى منه خير. هرم عشاق الثورة الكلاسيكيّة من أجل هذه اللّحظة التاريخيّة التي رأوا فيها مفاهيمهم في التكتيك والاستراتيجيا وفي الظروف الذاتيّة والموضوعيّة وفي سياسة المراحل وغيرها من المفاهيم المؤسسة لفلسفة الثورة تتهاوى ليحلّ محلّها شيء جديد مازال غامضا وملتبسا في أذهان منظّري الثورات وفلاسفتها.

في الحقيقة أشعر بتردّد في اعتبار أنّ كلّ من أشهر علنا معارضته للأنظمة البائدة من غير شباب الفايس بوك والراب والعاطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا ومن غير حامليها الباقين على قيد الحياة هم كذلك من قيادات هذه الثورات ورموزها

هل ركبت الثورة هؤلاء الّذين فجّروها على شاشات الكمبيوتر قبل أن تمتدّ إلى الشوارع والساحات؟ لا أعرف إذا كان يوجد البعض منهم في سدّة الحكم اليوم لإضفاء الشرعيّة ومسحة ثوريّة ظاهريّة على الحكومات الجديدة. في الحقيقة أشعر بتردّد في اعتبار أنّ كلّ من أشهر علنا معارضته للأنظمة البائدة من غير شباب الفايس بوك والراب والعاطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا ومن غير حامليها الباقين على قيد الحياة هم كذلك من قيادات هذه الثورات ورموزها، ولكن إذا اعتبرناهم كذلك، فإنّ ذلك قد يبرّر لنا أن نتحدّث عمّن كادت الثورة أن تركبهم. يكفي أن نستحضر عبد الفتاح يونس القائد العسكري لثورة الشباب الليبي ضدّ القذافي في مراحلها الأولي حتّى وإنْ كان من وزرائه القدامى وفي تونس نجيب الشابي الذي أصرّ على البقاء في البلاد صحبة رفيقة دربه ميّة الجريبي مقارعين تقريبا وحدهما، ما عدا ثلّة من الكتاب والحقوقيين والنقابيين على عين المكان نظام ابن علي بالكتابة وبإضرابات الجوع في حين فرّ آخرون من تونس اتقاء لشرّه آثرين للسلامة يشاكسونه عن بعد على قناة الجزيرة قبل أن يرجعوا إلى البلاد ويتربّع البعض منهم على سدّة الحكم والثورة، أمّا الراكبون على الثورة فهم يُستعصون على الإحصاء ولكن الأكثر لفتا للانتباه منهم هم هؤلاء الناشطون السياسيون والجامعيون الذين يُتّهم بعضهم بتصيّد الفرص للظهور في التلفيزيون والحديث في كلّ شيء وعن أيّ شيء و عن لا شيء– اختصاصاتهم متعدّدة في العلوم الإنسانيّة وبما أنّ هذه العلوم متداخلة وعائمة، أو هكذا أراد لها البعض من أصحابها، وتصبّ في بعضها البعض صاروا كلّهم علماء في الثورة وفي السياسة وفي علم الاجتماع السياسي وفي الانتقال الديمقراطي، بعضهم يحلم بتعويض ترسانة الجامعيين القدامى في القصر، وزراء وكتاب دولة ومستشارين كبارا وصغارا وكتبة خطابات لرؤساء جدد بعضهم لم تتّضح معالمهم بعد.

يصعب علينا أن نحدّد بدقّة الراكبين على الثورة. ليس هناك أيّ فرد الآن بمنأى عن الاتهام بركوب الثورة، النزيه والخبيث، الكاذب والصادق، الثوريون والمضادون للثورة، قبائل ومدن وطوائف، حوثيون ودواعش متّهمون على حدّ السواء بالركوب على الثورة حتّى أنّه لم يعد مكان شاغر فيها يركبه أحد إلاّ أنّ الثابت هو أنّ من يركبها كراكب الثور ينبغي أن ينتظر في أيّ لحظة أن ترمي به وتدوسه وتقذف به إلى مزبلة التاريخ آجلا أم عاجلا.