Atwasat

الطوفان الفلسطيني وغرق الخرافة

سالم العوكلي الثلاثاء 10 أكتوبر 2023, 03:16 مساء
سالم العوكلي

يعتقد الصهاينة بعد قرن إلا ربع من احتلالهم لفلسطين، ويعتقد المجتمع الدولي الذي رخّص لهذا الاحتلال عن طريق هيمنة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على منظمة الأمم المتحدة الناشئة في ذلك الوقت، ويعتقد الساسة العرب الذين دخلوا جوقة التطبيع مع الكيان الغاصب، أن القضية الفلسطينية صُفيت، وأن ما يسمى دولة (إسرائيل) أصبحت واقعًا لا مناص منه، ولم يبق من فلسطين إلا أرخبيل ممزق تلتهمه المستوطنات كل يوم، وجزء من شعب مقاوم في غزة المعزولة والمحاصرة بالأسوار والأسلاك الشائكة والمستوطنات المسلحة، ولا نافذة لهم صوب الهواء الطلق سوى أنفاق يحفرونها تحت الأرض، بينما المخيمات الفلسطينية المكتظة باللاجئين في الدول المجاورة تمت تصفيتها ونقل معظم سكانها إلى دول بعيدة عبر شركات طيران دولية تعمل هي أيضًا على تصفية هذه القضية.

لكن في يوم سبت من أسبات الكيان، سينقض طوفان من المقاومين برًا وجوًا وبحرًا مخترقين كل الحواجز، ليعري كل تلك الأوهام، ولأن المقاومة والدفاع عن الأرض أمر غريزي لكل الكائنات في هذا الكوكب سيظل هذا الطوفان الذي يحاول أن يوقظ العالم من سباته الأخلاقي يتكرر. العالم الذي بدأ يؤلف قاموسه المحرف الذي جعل من الاحتلال «دفاعًا عن النفس»، ومن المقاومة والدفاع عن التراب الوطني وعن أشجار الزيتون إرهابًا.

وفي أعتى الدول الديمقراطية المتشدقة بكل القيم الإنسانية التي تغزو العالم بذريعتها، نسمع الآن تصريحات وبيانات لا تمت لمنطق التاريخ ولا للعرف الأخلاقي بصلة، تدين المقاومة، وتبرر جرائم الاحتلال، وهي تحاول أن تُروّج لهذا الكيان المغتصِب كشعب مسكين يتعرض لوحشية الفلسطينيين، وللأسف ينجح موقتًا هذا التزييف للحقائق الثابتة، وتتبناه قوى غوغائية في أجزاء من العالم، لدرجة أن الرئيس الأوكراني الذي يتحدث يوميًا عن وحشية الاحتلال الروسي لأرضه ينحاز للاحتلال الصهيوني في مواجهة شعب أعزل يدافع عن عتبات بيوته وأَسرّة أطفاله، وكأنه اعتذار متأخر من النازية الأصلية للنازية المُحدثة، في مفارقة تؤكد اصطفاف الفاشيات بجانب بعضها حين تشعر أنها في خندق واحد، وتتحد تلك القوى في توجهاتها الفاشية التي بدأت تكتسح صناديق الاقتراعات في أعتى الدول الديمقراطية في الغرب.

الاتحاد الأوربي يدين «دون لبس» هجوم المقاومة الفلسطينية على المستوطنات (الإسرائيلية)، وهي إذ تفعل ذلك دون لبس، تدين «دون لبس» المقاومة الأوروبية للاحتلال النازي في أربعينيات القرن الماضي، وتدين إنزال النورماندي الذي شكل طوفان الحلفاء ضد الاحتلال النازي لدول أوروبية أخرى. وبايدون الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا يرصد 8 مليارات دولار كمساعدات عسكرية عاجلة لدعم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وهنا تسقط المعايير الأخلاقية والتاريخية والإنسانية فيما يخص مفهومي الاحتلال والمقاومة.

الساسة الأوروبيون الذين يتعاطفون (دون لبس) مع ما تعرض له الصهاينة في طوفان الأقصى هم ورثة من وعدوا اليهود بأرض الميعاد وهجروهم خارج أوروبا، وصنعوا لهم وطنًا بالقوة في هذه الأرض المأهولة، كإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية التي أقيمت فيها المحارق الجماعية لليهود التي يدينها كل ضمير إنساني مثلما يجب أن يدين ما يفعله الصهاينة في أرض فلسطين من إبادة عرقية وحرق لسكانها الطبيعيين بالتقسيط.

الكاتب النمساوي (اليهودي) شتيفان تسفايغ الذي انتحر العام 1942 مع زوجته بعدما شهد أوروبا «موطنه الروحي» تعاني ويلات الحرب العالمية الثانية و«تدمر نفسها»، حسبما جاء في رسالته الوداعية، يقول في كتابه (عالم الأمس) ترجمة عارف حديفة: «إذا كان أدولف هتلر، في عماه العنصريّ الإجراميّ، قد رأى (الحلّ النهائيّ) في وضع اليهود في معسكرات اعتقال تضمن موتهم البطيء، أو حرقهم في أفران الغاز؛ فإن (الحل النهائي) الذي تقدّمه النخب الأوروبية، والحركة الصهيونية، هو تجميع اليهود في جيتو أو معسكر اعتقال عالمي اسمه (إسرائيل)، يُنقل إليه اليهود بعد نزعهم من مجتمعاتهم المحليّة الأوروبيّة».

نعم تخلصت الدول الأوروبية العنصرية من مواطنيها اليهود ونقلتهم إلى معسكر بعيد في قلب الشرق الأوسط كي تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، لكن في الواقع ما فعلته احتلال لأرض أخرى، وإقامة دولة مسخ من كيان ديني مُزدرى في أوروبا، ومشاهد الجثث أو طوفان الأقصى سيرونها كثيرًا لأنهم من جنى على مواطنيهم (اليهود) واخترعوا لهم مخيم نزوح في أرض كل حبة تراب فيها مروية بعرق فلسطيني.

ولأن العدو العقلاني قد يكون أفضل وأعمق بصيرة من صديق لاعقلاني، فسأورد بعض ما قاله كُتاّب (إسرائيليون) عن مصير دولتهم المزعومة إذا تبع ساستها أوهامهم الجامحة بإمكانية القضاء على جذوة المقاومة الفلسطينية وتكريس سياسة الأمر الواقع، لأن الدولة التي أقيمت على أكذوبة وترعرعت في الخرافة لن يكون لها أسس طال الزمن أو قصر:

يقول الكاتب الشهير آري شبيت من الكيان الصهيوني في مقالة بعنوان «إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة» نشرت في صحيفة ها آرتس: «الإسرائيليون منذ أن جاؤوا إلى فلسطين، يدركون أنهم حصيلة كذبة ابتدعتها الحركة الصهيونية، استخدمت خلالها كل المكر في الشخصية اليهودية عبر التاريخ... لعنة الكذب هي التي تلاحق الإسرائيليين، ويومًا بعد يوم، تصفعهم على وجوههم بشكل سكين بيد مقدسي وخليلي ونابلسي، أو بحجر جمّاعيني أو سائق حافلة من يافا وحيفا وعكا»1. وما عاد الأمر يقتصر على مبادرات فردية للمقاومة لكن معركة طوفان الأقصى أكبر دليل على الكذبة التي يروجها ساسة الدول الكبرى ويصدقها الغوغاء ممن يرون أن الإسرائيليين مساكين وسط عالم عربي متوحش، أو من يحاولون ربط المقاومة الفلسطينية الغريزية والطبيعية بأجندات إيرانية أو إرهابية في حملة تشويه واسعة للحقائق الثابتة، ولكل ما حاول أن يبنيه الإنسان منذ وجوده في هذا الكوكب من قواعد تعايش وقوانين دولية. وحين يقول نتنياهو إن هذه حرب وليست عملية عسكرية يؤكد أنهم في مواجهة شعب برمته لن تتوقف الحرب معه مادام الاحتلال قائمًا.

وفي وصف آخر مسبق لما حدث من طوفان مقاومة في غلاف غزة وصلت شظاياه لكل مدن الكيان الصهيوني، يقول كاتب صهيوني يساري آخر وعقلاني من قلب الكيان (جدعون ليفي): «يبدو أن الفلسطينيين طينتهم تختلف عن باقي البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا على شبابهم الغانيات وبنات الهوى والمخدرات، وقلنا ستمر بضع سنوات، وسينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجر انتفاضة الـ87.. أدخلناهم السجون وقلنا سنربيهم في السجون. وبعد سنوات، وبعد أن ظننا أنهم استوعبوا الدرس، إذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة عام 2000، أكلت الأخضر واليابس، فقلنا نهدم بيوتهم ونحاصرهم سنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من المستحيل صواريخ يضربوننا بها، رغم الحصار والدمار، فأخذنا نخطط لهم بالجدران والأسلاك الشائكة، وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض وبالأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلًا في الحرب الماضية، حاربناهم بالعقول، فإذا بهم يستولون على القمر الصناعي الإسرائيلي (عاموس) ويُدخلون الرعب إلى كل بيت في إسرائيل، عبر بث التهديد والوعيد، كما حدث حينما استطاع شبابهم الاستيلاء على القناة الثانية الاسرائيلية..

خلاصة القول، يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال»2. ويقول جدعون في مكان آخر ما مفاده أن حل الدولتين أصبح من الماضي وما عاد يوجد سوى حلين: إما أن يباد فلسطينيو الداخل، وهذا مستحيل، وإما أن تقام دولة ديمقراطية من النهر إلى البحر يعيش فيها الفلسطينيون واليهود وقد يكون رئيس حكومتها فلسطيني، وهذا ممكن.

لكن قادة الصهاينة المنغمسين في الخرافة والوهم لا يستمعون لصوت العقل الطالع منهم. نعم، اعتمد الكيان الغاصب سياسة الجدران والأسلاك الشائكة من أجل حجز الفلسطينيين في إقامة جبرية داخل ما تبقى لهم من أرض، من أجل خنق هذا الشعب لينتهي بالموت البطيء، ولكن غريزة المقاومة التي لا يمكن خنقها، وبأجنحة من قماش ومراوح وعربات صغيرة مصنعة من النفايات، تخترق المقاومة الجدران والأسلاك الشائكة والحواجز المدججة والقبة الحديدية لتؤكد مخاوف كُتاب هذا الكيان (الخائفين على شعبهم من التهور الفاشي) من سياسات دولتهم المتطرفة التي ستفضي بهم إلى مصير كمصائر سابقة قادهم لها الحاخامات المتطرفون ورجال الأعمال المتعصبون. والفارق التكتيكي سيظل دائمًا في صالح المقاومة ضد الاحتلال، وهو استعداد المقاومة لأن تضحي بعشرات الألوف وبالبيوت وبكل شيء من أجل قضيتهم المقدسة، بينما الاحتلال يرعبه قتل مستوطن واحد أو أسر جندي أو حرق عربة لأنه يعرف أنه يقاتل على أرض ليست له.

وهو فارق أخلاقي بين مقاوم يدافع عن ترابه وجذور زيتونه وأغانيه المتجذرة في المكان، وبين غاصب عابر يدافع عن كذبة وخرافة. وهذا الفارق هو ما جعلنا نرى المستوطنين يركضون في الصحراء هروبًا لأنهم كانوا يرون مثل هذه الكوابيس في نومهم فوق أرض ليست لهم، ولم نرَ أبدًا مشهدًا مماثلًا لسكان غزة حين تنهمر على بيوتهم صواريخ وقنابل العدو، وتشب فيها الحرائق وتتهاوى الأبراج، ويُقتل الآلاف من المدنيين، لأنهم يعرفون أن التراب تحت غزة من أديم أجساد جدودهم، وأن السماء فوق غزة عابقة ببخور جداتهم. وهذا الفارق الأخلاقي والوجودي هو ما سيحسم الصراع طال الزمن أو قصُر.

2،1: جريدة الخبر إل واي الإلكترونية. 12 مايو 2021.