Atwasat

شهيد المعرفة

منصور بوشناف الخميس 31 أغسطس 2023, 06:28 مساء
منصور بوشناف

ما إن تدخل الأكاكوس حتى تدرك بأنه ملك جبالها، فهو الأعلى والأكثر مهابة.. مكللٌ بالضباب.. غامضٌ ومثيرٌ للمخاوف عن بعد.. حين تقترب منه تكتشف مدى صغر حجمك أيًا كان طول قامتك.. الجبل الذي يتربع وسط الجبال مهابًا مخيفًا والذي لا بد أن إنسان الأكاكوس الأول تخيله مسكنًا للآلهة.. ذهبت ودليلنا الملثم إليه متوجسين.. قلَّ الكلام بيننا حتى انقطع تمامًا حين وصلناه.. كان شاهقًا أملسَ بحيث يستحيل تسلقه لغير خبير تسلق مجهز جيدًا.. كان مكونًا من جبلين.. الأول ويمثل قاعدة الجبل وهو بحجم الجبال المجاورة.. ثم جبل آخر بحجم الأول وينتصب على قمته.. إنهما جبلان ينتصب أحدهما على أكتاف الآخر متطلعًا إلى المجهول.. ونحن نبتعد عنه انطلق لسان دليلي: يحكى أن أهل الأكاكوس راهنوا بمئة ناقة لمن يستطيع أن يصعد هذا الجبل ويهبط سالمًا ليخبرهم بما يجد على قمته.. حاول الكثيرون وكان أقصى ما يصلون إليه قمة الجبل الأول.. أحد الرجال وبعد اليأس والفشل اللذين أصابا كل المحاولين انطلق صاعدًا دون أن يدخل السباق ولا يطلب المكافأة، ولم يعلم أحد بصعوده إلا وهو يقف على قمة الجبل الأول.. لم يثر حماس أحد فبعد فشل كل المغامرين الباحثين عن المجد والثروة كيف سيكون بإمكان مجنون لم يعلن صعوده ولم يطلب الجائزة أن يحقق أي شيء؟.. انصرفوا كلٌّ إلى شؤونه متناسين المجنون ومغامرته، متوقعين عودته قبل حلول شهر رمضان الذي كان على الأبواب.. مرت الأيام في الأكاكوس كما تمر دائمًا رتيبة جافة، ولم يكن فيها من جديد عدا عودة من ذهبوا إلى غات للتسوق.. الأم التي بحثت عن ابنها المغامر في كل شعاب الأكاكوس ولم تجده هي أيضًا كانت على قناعة بأنه هبط من مغامرته ولا بد أنه اختبأ خجلًا من فشله في كهف من الكهوف.. بعد فشل بحثها عنه في الشعاب والكهوف طمأنت نفسها بأنه لابد أن يكون قد التحق بالمتسوقين إلى غات.. أكدوا لها أنهم لم يروه منذ إطلالته من القمة الأولى.. ناحت الأم وبكت وهي تصرخ أنه لابد أن يكون قد هج خجلًا وأنه لن يعود.. طمأنوها أنه سيعود ولن يغيب كثيرًا وانصرفوا يفتشون السماء عن هلال رمضان.. في اليوم الثاني من تفتيشهم عن الهلال أشار أحدهم إلى القمة الثانية صائحًا: «الهلال»، كان أبيض يرفرف على قمة الجبل.. انذهلوا لوهلة غير مصدقين ولكن الهلال كان يرفرف ناصعًا.

إنها راية.. قال أحدهم فتذكروا المغامر غير مصدقين أنه وصل والراية لم تكن إلا قميصه وقد رفعه على سيفه المثبت على أعلى نقطة في القمة الثانية.. نادوا باسمه ولم يتلقوا جوابًا.. صعد مغامروهم في اليوم الثاني ونادوا باسمه من الصباح حتى المساء ولم يسمعوا منه ردًا، وقبل أن يهبطوا كان بإمكانهم جميعًا أن يروا هلال رمضان نحيلًا كشعرة بيضاء معلقة في السماء.. ظلت الراية البيضاء ترفرف على القمة الثانية، وظلت الأم تنوح، وظل المنادون ينادون دونما جواب.. ماتت الأم وتمزقت الراية، ثم سقط السيف حتى انغرس في الأرض أمام خيمة من خيامهم ثم نسوا كل شيء.

وهم ينحرون الأضاحي في عيد الأضحى وبعد عشر سنين من صعوده، سمعوا ثم رأوا شيئًا يتدحرج من القمة الثانية ثم يواصل باتجاههم قافزًا من القمة الأولى حتى يستقر أمام خيامهم، كانت جمجمة آدمية حقيقية، ورغم كل الصخور لم تتهشم؛ بل ظلت متماسكة صلبة.

شهيد المعرفة والاستكشاف والريادة الأكاكوسي الذي سرد على مسامعي دليلي الملثم قصته لم يكن بالنسبة لي إلا مغامرًا صعد ولم يعد، وظل اكتشافه سرًا أخفاه عنا وعن أهله الموت، فلم يصل من رحلة استكشافه إلا جمجمته وقد فقدت كل ما فيها من معرفة وأحلام وآمال، أرى هذا في الكثير من مستكشفي جبل «الحداثة والتحديث» الذين أرسلنا بهم ولم يعد لنا منهم إلا جماجم بيضاء فارغة.