Atwasat

غيمة المحبة المباركة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 28 أغسطس 2023, 02:19 مساء
محمد عقيلة العمامي

لم يعد الإسهاب وسيلة لتوصيل الرأي، لا الصائب ولا الخائب، بل التكثيف والإيجاز هما العنصران الفاعلان. لأن المعرفة لم تعد حكراً على أحد، لأنها أصبحت متوفرة بلمسة زر جهاز يضعها أمام عينيكك قبل أن ترمش، وبنوع الخط، الذي تحبه.

الآن بعد أن عديت هذا العمر، الذي ما وددت أبداً أن أعديه، بدأت تتراءى لي حقائق بسيطة، وبالغة الفائدة، في مواجهة مغبات الحياة، لو فقط يتأملها المرء بهدوء، مثلما يتأملها راهب بوذي، كالذي يسمونه (بيكو) و(بيكوني)، فهم يرجعون نجاح الإنسان في حياته إلى عدة أسباب - وبالمناسبة لم أقم بالكثير منها في حياتي، بل العكس أعتقد أن شخصيتي بعيدة عنها تماماً- إنها وأهمها: «أن يحتفظ المرء بالهدوء، لا يقلق. يناضل باجتهاد من أجل قناعاته، لا من أجل إثبات شيء لأحد، محتفظاً بهدوء الواثق، الذي يمتلك اختيار قراره وبالتالي قدره.. » تأملت عدداً من أصدقاء عمري وتبينت أن عدداً منهم كانوا كذلك، وبالفعل كانوا مثاليين في علاقاتهم مع الناس، وصلوا إلى مايريدون، ولكنهم يعتقدون أن من يسلك طريق غير طريقهم فاشل، وأحيانا ضال!

أما الثانية فهي الإنصات إلى صوت القلب (العقل)، ولا يمكن للمرء أن يسمعه، إلا إذا كان منسجماً تماماً مع العالم المحيط به، منتبهاً، إلى أنه بالتأكيد، لن يسمعه عندما يعتقد أنه، دون خلق الله، مركز الكون. وأعتقد أنني في الغالب، وأكرر في الغالب، أنصت لصوت العقل، ولكن ليس على الدوام. أما الأمر الخطير، فهو أنني أختلف مع هذه النقطة، وسبب ذلك قناعتي أنني أخذت بفلسفة السفسطائيين الذين يقررون أن الإنسان مقياس الأشياء، فما يراه المرء حقا فهو حق، وما يراه باطلاً فهو فاطل!.

والثالثة أن ترى الناس بعيونها، وأنا بالفعل أجاهد أن أفعل ذلك، ولكنني كثيراً ما أعجز عن ذلك! أما الرابعة، فإنه من الخطأ أن يهب المرء حياته لحلم، لأنه وببساطة شديدة، عندما يبلغه يتعين عليه أن يكون على قيد الحياة ليبتهج به، والحقيقة أنني أحلم ولكنني لا أعيش حياتي كاملة، من خلال هذا الحلم.

والخلاصة لا بد أن يخلق المرء انسجاماً مع من يحب، حبيبة كانت، أم فكرة، أم عقيدة، أو مشروعا، وهذا تحصيل حاصل، فالحب في الأساس هو توافق وحالة من انسجام، في الغالب دائماً، ذلك عندما يكون حقيقياً.

أما أخطر ما يقوله (البيكونات) فهو أن نصغى دائماً إلى صوت العقل، وحتى إن كنا نرفضه، علينا أن نحترمه ونتأمل نصائحه، لأنه يعرف لحظة رد الفعل سواء بقبوله أو رفضه، وقد يكون هذا هو سبب المشاكل، لأنني، ولا أقول لأننا، كثيراً ما نحاول إيجاد ثغرة متصورين أننا أقنعنا العقل، ولا ننتبه إلى الخطأ الذي وقعنا فيه إلاّ بشروق شمس اليوم التالي!

ولقد قرأت للكاتب البرازيلي (باولو كويلهو) حكاية ظريفة بليغة عن حياة الغيوم، التي وصفها أنها مضطربة جداً وقصيرة جداً! ولقد أعدت صياغتها بما رأيت أنه يتناسب و مكانتها في عقلي، ولعلها توقظ بعض المغيبين عن واقع الحياة، وصيرورتها، ومواجهتها. تقول الحكاية:

غيمة مترعة بالرومانسية والحنان، تخلقت من رحم عاصفة عاتية ممتلئة بالحكمة والانضباط، ولدت فوق المتوسط، غير بعيد عن شط الحليس، الخيالي في رماله وصفاء مياهه، ثم مالت قليلا نحو شط الياسمين، ومن فوقه دفعتها رياح العون، فابتعدت عن بقية السحب المثقلة بالغيث، والمثل، والوقار، تلك السحب كانت متجهة نحو وسط أفريقيا! تركتها مجرد نسمة لطيفة فوق ربوة رملية، دافئة، ابتسمت لها، فأغوتها، فأحبتها. وسألتها: "إلى أين أنت متجهة، أيتها الغيمة الناعمة الجميلة؟" فأجابت الغيمة نحو بحيرة فيكتوريا، وهناك سأتحول إلى مطر!، فقالت لها الربوة: «أتعلمين أننا نسمى المطر هنا نعيماً!» فأجابتها: «لم أكن أعلم أنني مهمة إلى هذه الدرجة..». فقالت لها الربوة الرملية: «كان موطني مغطى بالأعشاب والأزهار.. ولا أعرف كيف أصابنا الجدب!؟» فقالت لها الغيمة: «أستطيع أن أغطيك بالمطر، لقد وصلت إليك وأريد أن أبقى معك.. أنا مغرمة بك». فأجابها الربوة: «ولكنك ستنتهين..» فقاطعتها برقة حانية وقالت لها: «الحب لا يموت أبدا..».
وسكبت مياهها وكانت دافقة عذبة فتغطت الربوة بالأزهار، وهكذا تبعتها بقية الغيوم، معتقدة أنها وجهتها ومصيرها وعلى امتداد سنوات، أصبحت الربوة واحة ظليلة ببحيرات وأنهار، وصارت مأوى للرحل والعطاشى.. ثم أصبحت خزاناً من الماء والخير، والمحبة والدفء، والإيثار. يقولون أنها، الآن، هي التي، تسقي ليبيا كافة!