Atwasat

دولة أم وطن؟

سالم العوكلي الثلاثاء 08 أغسطس 2023, 04:22 مساء
سالم العوكلي

في مقالته المهمة والمثيرة «مفهوم الوطن لدى الليبين»*، يسرد الكاتب والشاعر عمر الكدي وقائع عدة من تاريخ الكيان الليبي، ليصل في النهاية إلى استنتاجه الذي يذهب إلى أن مفهوم الوطن في ليبيا لم يتبلور من خلال ما يسميه «صفحات مطوية في التاريخ الليبي يتحاشى تقريبا الجميع فتحها، وإعادة قراءتها»، وهو إذا يواربها في هذا المقال، ويعيد قراءتها، فمن أجل تأكيد حقيقة مسبقة، رأى أن كل هذه الوقائع تدلل عليها.

يبدأها بفكرة تأسيس الدولة الوطنية الليبية الذي ربطه بالملك إدريس الذي جمع كل المكونات الدينية والعرقية والمذهبية والطبقية، ليحاول أن يُكوِّن وطناً من هذا «الخليط».

وكعادة الكاتب الكدي في القبض على المفارقة، يقول إن هذا الخليط «له علم ونشيد كتبه شاعر (تونسي)، ولحنه موسيقار (مصري)»، وفتح القوسين مني، وإنالملك في النهاية حاول بعد سنوات قليلة تقديم استقالته، و«الهروب من هذا الكرنفال العجيب». وأضاف أنه بعد انقلاب سبتمبر، أعتُمِد العلم المصري والنشيد الوطني المصري في الجمهورية العربية الليبية.

ومن خلال عدة أحداث تاريخية أخرى مثل وصف معركتي القرضابية وجندوبة، وحكاية الهجوم علي برغل على طرابلس، وصمود الجبهة الشرقية تحت قيادة السنوسية، وما ترتب عليها من معتقلات، يصل الكاتب إلى محاولة تشخيص الأزمة التي نعانيها الآن، وأن ما يحدث هو استمرار لهذا التاريخ الذي كان يتحرك في الفراغ دون أن يستطيع خلق جغرافيا من الممكن أن نسميها وطناً، متطرقا للصراعات الدولية التي رافقت حصول ليبيا على استقلالها، لنربح في النهاية وطناً «مثلما يربح محظوظ جائزة اليانصيب، بينما لم يتشكل مفهوم الوطن والهوية».

وربما الدافع الذي حرك هذا الشجن التاريخي يتمثل في بعض الوقائع الراهنة التي ما زالت تؤكد سراب ما نسميه وطناً، في ظل نفوذ قبلي يحل محل المؤسسات التي هي إحدى مؤشرات الوطن، وما يتبعه من مواطنة، ويلخص هذه الأحداث في: «كنت أتمنى إذا خُطِف أي مواطن أو اعتُقل خارج القانون أن يخرج الجميع، للدفاع عنه والتنديد بالجريمة، كما تفعل كل الشعوب الحرة التي تؤمن أن لها وطنا تدافع عنه، وأن اعتقال مواطن واحد خارج القانون هو تهديد للجميع، ولكن اعتقال وزير المالية السابق فرج بومطاري بطريقة غير قانونية جعلت قبيلته «الزوية» تخرج لتغلق بعض الحقول النفطية، بالضبط مثلما فعل المقارحة عندما أغلقوا آبار النهر الصناعي، ومثلما فعل الزنتان عندما أغلقوا خط الغاز في الحمادة الحمراء». انتهى الاقتباس.
سؤال الهوية والكيان ظل همساً في كثير من الفترات التي مرت بها الدولة الليبية، ويُصدح به جهراً أوقات الأزمات، كما يحدث مع جميع الأمم أو الكيانات.

سؤال راودنا ويراودنا جميعاً إذا ما أعدنا التفكير في هذا التاريخ، وفي استقلال ليبيا بنظام فيدرالي توحد في ظل ضغط الدول التي لها شركات نفطية عاملة في ليبيا، وأتعبتها بيروقراطية ثلاث حكومات إقليمية، وحكومة رابعة اتحادية، وصولاً إلى ما حدث في ليبيا من تشظٍ بعد سقوط النظام السابق كقوة ضاغطة وضامنة لوحدة الكيان بالإكراه مثلما كانت فترة حكم بالبو. وربما كل هذا ما جعل الكدي يصل إلى النتيجة التي هي في الواقع كانت الفرضية الذي بدأ من خلالها المقال، الذي من خلاله سأجتهد في ذكر ملاحظات هي أقرب لأن تكون مداخلة مشاكسة مع المقالة المهمة.

بداية، من الممكن أن ينطبق ما ذكره الكدي على كل الدول العربية ـ باستثناء مصر ــ وفق ما نشاهده الآن، وأمم أخرى ما زالت تظهر فيها الحركات الانفصالية، وتقوم فيها الحروب الأهلية.

أنا شخصيا أعتبر مفردة «الوطن» مفردة رومانسية مثلها مثل مفردة «الحرية»، فماذا يعني الوطن؟. في اللغة الإنجليزية تطلق المفردة نفسها HOME على الوطن والبيوت، وعلى الإقليم أو المدينة أو القرية. وحتى في مفهومنا العربي للوطن كترجمة لهذه المفردة، فإن كل بيت أو شارع أو قرية أو مدينة أوعشيرة هو وطن داخل الوطن، وإذا ما اعتبرنا ترجمة اصطلاح نوستالجيا «الوطان» أو الحنين إلى الوطن، فإن هذه النوستالجيا عادة ما تكون موجهة إلى المكان الحميمي للفرد داخل ما يسمى افتراضا «الوطن» الكبير، فعمر الكدي حين يحن إلى وطنه لن يحن إلى أوباري أو طبرق أو رقدالين، لكنه سيحن إلى موطنه الأصلي غريان الذي ذهب إليه مباشرة بعد مجيئه الأول إلى ليبيا بعد سنين طويلة قضاها في المنفى معارضاً، ومن ثم سيحن إلى طرابلس التي ارتبطت لديه بذكريات كثيرة، بل لن يحن إلى طرابلس كلها، ولكن إلى أصدقائه فيها.

ولو عاد عمر إلى الوطن، وعاش في زلة أو المرج، فسوف يشعر بغربة ربما أكثر من غربته في المدينة التي يقطنها في هولندا (وهو أمر لا يمكن أن يؤكده إلا عمر نفسه).

أما الحنين إلى ليبيا ككيان سياسي موحد فسوف لن يحضر إلا في مجاز شعري أو استعارة مكنية، والحنين إلى الوطن شعور رومانسي لن تشوشه إلا حقيقة أن الوطن المتخيل يشمل عدة أوطان واقعية ننتمي ونحِنُّ إليها، وفي جميع الأحوال سيقول التاريخ والجغرافيا كلمتهما في هذا المفهوم مهما شطحنا بخيالنا الجواب. وحين نتحدث عن الحقوق والمواطنة، وكل القيم التي نطالب بها هي قيم يجب أن تضمنها الدولة وليس الوطن. فقد يوجد وطن دون دولة، لكن لا يمكن أن توجد دولة دون «وطن» أو أوطان داخل سلطتها.

التاريخ والجغرافيا عاملان حاسمان في تشكيل ما اتفق على تسميته «الانصهار الوطني»، حتى لا أقول وطناً. بمعنى ذوبان مكونات اجتماعية عدة ـ أحيانا تكون متناقضة ــ في كيان سياسي واحد صالح لأن يطلق على محتواه تسمية «الأمة» أو «الدولة». وحدة الكيان ممكن أن تحدث إكراهاً في نظام مركزي دكتاتوري، غالباً ما يعتبر شرعيته تنبع من ضمانته هذه الوحدة، لكن التاريخ أثبت أن الانصهار الوطني لن يحدث إلا في ظل نظام ديمقراطي يضمن الحريات ودولة القانون، والتوزيع العادل للثروات والفرص، وحق المواطنة بغض النظر عن انتماء الفرد. في هذه الحالة، فإن المواطنة المشتقة من مصطلح الوطن، الذي أعتبرته رومانسياً، ستكون هي الإجراء العملي داخل هذا المفهوم المطلق، وهذا ما جعلني أُشبِّه الحديث عن الوطن بالحديث عن الحرية التي هي أيضا مفهوم مطلق، ولا يمكن أن تتجسد وتتجذر إلا حين تتحول إلى باب «الحريات» المتجسدة فعلاً في وثيقة دستورية تُعرِّفها، وتضع لها القوانين التي تضمنها مثل حرية التعبير وحرية التظاهر وحرية الاعتقاد وحرية التنقل.. إلخ.

ولأن مفردتَّي «الوطن» و«الحرية» مطلقتان، وأقرب لأن تكونا رومانسيتين، أغرتا النظم الفاشية بأن تتغنى بهما، وترفعهما شعارات وهي تفتك بالجموع والبشر داخل هذا الوطن بحجة حماية الوطن نفسه، أو قمع كل الحريات بحجة الدفاع عن «الحرية»، وينطبق الأمر على اصطلاح «الشعب».

وفي جميع الأحوال، وحتى لا نقع في قبضة اليأس ونحن نتحدث عن مستقبل هذا الكيان الليبي، علينا ألا نغفل مراحل وسياسات سعت للانصهار الوطني منذ تأسيس الدولة الوطنية الليبية المعترف بها دولياً وفق دستور وحدود سياسية محددة، استسلمت في البداية للنظام الفيدرالي وفق الولايات التي تكرست منذ قرون، ثم توحدت بتعديل الدستور في العام 1963 في ظل ضغوط اقتصادية فرضها هذه المرة اقتصاد ريعي ومركزي، حيث إن الاقتصاد عامل مهم في خلق ما سمي «الانصهار الوطني»، وهو الأمر الذي جعل حكومة البكوش خلال وضعها الخطة الخمسية الثانية تُقسِّم ليبيا إلى 14 منطقة اقتصادية متداخلة لا يمكن لمنطقة أن تنجح إلا بعلاقاتها العضوية مع المناطق الأخرى.

بالإضافة إلى سياسات أخرى عامة مثل تخصيص فرع الجامعة الليبية في طرابلس للكليات العلمية، وفي بنغازي للكليات الأدبية، وانتشار الأقسام الداخلية في كثير من المدن والبلدات تأوي طلاباً من كل مناطق ليبيا، مما جعلنا نتعرف على طلاب من الشرق والجنوب درسوا في بنغازي والعكس، بالإضافة إلى المعاهد التقنية المتوسطة، ومؤسسة الجيش التي كان منتسبوها يتنقلون في كل مدن ليبيا، فضلا عن حيوية العمل النقابي الذي كان يؤسس لانتماء الفرد إلى المؤسسة بدل العشيرة، وهذا ما جعل سياسات القذافي تتجه إلى احتواء العمل النقابي، وإلغاء الأقسام الداخلية، وإنشاء الجامعات أو فتح الكليات في كل مدينة وبلدة، وحتى بعض القرى.

في ندوة شاركتُ فيها عن الهوية، أعتبرتُ ــ بغض النظر عن كل القاموس العاطفي الذي يصاحب هذا الهاجس ــ ما يمثل الهوية إجرائيا هو الكيان السياسي، وإن هويتي هي جواز سفري الذي اتنقل به في بقاع العالم. ومن خلال هذا التحديد أتمنى أن يكون سعينا نحو رفع مستوى هذا الجواز، ليمثل دولة حقوق ديمقراطية محترمة في العالم، وهذا هو السبب الذي يجعل من الحصول على جواز أميركي أو أوروبي لكل مواطن عربي حلماً قد يتخلى من خلاله عن «الوطن» أو جنسيته تماما، لأن هذا الجواز سيكون في الواقع «وطنه» الذي يتنقل معه أينما حل، وسيحميه ويحفظ حقوقه، ويجعله محترماً في كل منفذ يمر به. وحتى لا يكون الحلم الأميركي بعيداً، فإن جواز دولة صغيرة وحديثة زمنياً مثل سنغافورة يضمن كل هذا.

*عمر الكدي، مفهوم الوطن لدى الليبيين، بوابة الوسط، 17 يوليو 2023.