Atwasat

فن صناعة الغباء

سالم العوكلي الثلاثاء 18 يوليو 2023, 12:50 مساء
سالم العوكلي

في المقالة السابقة، وفي سياق ما ذكرتُه، أو خمنته، عن الذكاء الاصطناعي، أغراني الاسم في الجزء الأخير من المقالة أن أتهكم بعض الشيء، وافترضتُ، من باب أهمية التضادات في حسم بعض مسائل المنطق، أنه طالما هناك ذكاء اصطناعي لا بد أن يوجد بالمقابل غباء اصطناعي، ويبدو أني لم أشفِ غليلي بعد، لأني ربطت هذا الغباء المصنع بالنظم (القمعية الراعية لتربية الغباء وتطويره) وأن هذه الصناعة مخطط لها ومصروف عليها، بل أُنشِئت الكثير من المؤسسات بميزانيات ضخمة من أجلها، ووضِعت لها خطط استراتيجية بغايات وأهداف محددة، أهمها استمرار هذه النظم المتخلفة في الحكم تحت شعار «البصيص في بلاد العميان طرفة»، ورغم الفارق الضئيل بين الجهل والغباء، إلا أنه في مثل هذه الحالات التعسفية يختفي الفارق ويغدو نشر الغباء نوعاً من التجهيل الممنهج، والتجهيل وصفة للطغاة الذين يسعون لتحويل شعوبهم إلى قطعان من الماشية لا يهمها سوى الأمن والغذاء.
في المقالة السابقة، حين ذكرت أن «الغباء أيضاً ليس فطرياً، ويمكن اكتسابه عبر سياسات قمعية تنحدر بآليات التعليم والتنمية البشرية وفق سياسات عامة مدروسة ومخطط لها، نختصرها عادة بالتجهيل المتعمد، يفضي إلى صناعة مجتمعات لا يمكن أن يوصف أسلوبها في تدبر الحياة إلا بالغباء (المُصنّع) الذي هو بدوره لديه القدرة على اتخاذ القرارات المدمرة»، أجلت الاستطراد في هذا الشجن الذي يبدو للوهلة الأولى مجرد مفارقة، وفكرت أن هذا الشجن المتسرب عن الذكاء الاصطناعي دون أن يمت له بصلة، ربما يحتاج إلى مقالة أخرى (هو في الواقع يحتاج إلى كتابة مجلدات). وهذا ما سأفعله معتذراً لكل من سوف يتحسس (بطحة) الغباء فوق رأسه.
حقيقة أو شبه حقيقة أن كل (ومن أجل أن لا أقع في كمين التعميم المتربص بي في هذا المقالة أقول) أغلب من تصدروا المشهد الليبي أخيراً لا يمكن وصفهم سوى بالغباء، ولكي لا يعتبر وصف الغباء شتيمة سأسميه غباءً ممنهجاً، والأمر ليس حدساً أو تخميناً، فمن خلال تصريحاتهم أو بياناتهم أو الحوارات التي أُجريت معهم (خصوصاً كان معظمهم يحب التواجد على شاشة التلفزيون) أو من خلال بعض جلسات السلطات التشريعية المنقولة مباشرة، يُظهرون الغباء المعلن في كل ما يقولونه عن ماضي وحاضر ومستقبل هذه البلاد، وكما ذكرت في المقالة السابقة أن هذا الغباء المُصنّع لا يشبه الذكاء الاصطناعي إلا في كونه، أيضاً، قادراً على اتخاذ القرارات المدمرة. وندرك الآن إلى أين أفضت بنا القرارات التي اتخذتها الأجسام المتعاقبة بعد فبراير، أما ما قبل فبراير فكدنا أن نتكيف معه.
الغباء ليس (شتيمة) بالمعنى المطلق، خصوصاً حين يكون مُصنعا، وهؤلاء نتاج طبيعي لهذه الصناعة، ما يخفف من اللوم عليهم، فكلنا نولد تقريبا بنفس إمكانات الدماغ وبذكاء فطري قابل للتنمية والتطوير حتى يبني بلداً وأمة كما حدث في أرجاء كثيرة من العالم، غير أنه حين تتحكم سلطة قامعة في هذا الحشد وتقرر أن تحقن هذه الأدمغة بفيروسات فتّاكة، أو تجعلها تضمر وتتحجر عبر مناهج تعليم رديئة وسياسات تعليمية مدروسة، أو تطلِق عليها الفقهاء الذين يملؤونها بالخرافات، فإن هذه الخطط والصناعة ستأتي أكلها، وسيتحول الجَمْعُ إلى ما يسمى «غوغاء» مغسولة الأدمغة، تهتف للزعيم بالخلود وهو يقودهم صوب الهاوية.
الآن السؤال الذي يتبادر إلى ذهني وأكيد سيتبادر إلى ذهن كل من يقرأ هذه السطور، هو: وأنت يا فالح؟ هل نجوتَ من هذه الصناعة وكأنك تكتب من خارجها؟ وألا تعتبر مقالتك هذه جزءاً من نتاج هذه الصناعة التي اتهمت بها مجتمعا برمته؟
سؤال في الصميم وجوهري ومحرج، لكن لن تصعب إجابته. نعم نجوت إلى حد كبير، وطبعاً ليس وحدي، لكن الكثيرين نجوا عبر تحوطات مختلفة، فحين ينتشر وباء لابد من لقاح يحد من انتشاره، وفي مثل هذه الأوبئة التي يسببها فيروس التجهيل المصنع في مختبرات التخلف والنظم القمعية، سيكون اللقاح هو القراءة والبحث عن المعرفة في غير وسائل هذا النظام، وطرح الأسئلة، وتنمية التفكير النقدي، وغيرها من اللقاحات التي لا تجعل أحدنا منساقاً ضمن قطيع يُساق إلى المذبح وهو يهتف للزعيم الجاهل: «علم يا قايد علمنا.. كيف نحقق مستقبلنا». ولا تجعلنا مثل هذا القطيع الذي ما زال يعبّر عن حنينه للزعيم. الزعيم الذي اخترع كتابه الغبي ليصبح قانونَ وعقيدةَ ومستقبلَ هذه الأمة في كل تفصيل، وخلق حشداً من المريدين والمؤمنين به الذين يتلونه تلاوة، والذي ابتكر مراكز براعم وأشبال وسواعد الفاتح كروضات لزراعة فيروس الغباء في هذه الأدمغة الطرية، والذي ابتكر الدورات العقائدية وكل آليات غسيل المخ كي نتوقف عن التفكير المبدع والحر، والزعيم الذي اخترع يوم السابع من أبريل في الجامعات كيوم وطني للغباء، والذي عبره كان يُصفّى كل الطلاب والأساتذة (الأذكياء) من الجامعات. الزعيم الذي سمى المدارس ثكنات، وحوّلها إلى معسكرات تعلم الطلاب الطاعة المطلقة، والذي أنشأ المدرج الأخضر ليكتظ بالأكاديميين الأغبياء الذين ينقلون آفاق الغباء إلى مستويات عليا، ويوزعون شهادت التقدير على من برعوا في نشر الغباء. وأستثني بدوري قلة من الأكاديميين العصاميين الذين أخذوا اللقاح مبكراً، وغردوا خارج السرب، وبعضهم دفع الثمن.
الزعيم الذي قال، فترة السلطة الشعبية والتصعيد، دون أن يرف له جفن، صعدوا حتى حمار يتقلد المسؤولية، المهم تستمر السلطة الشعبية. وهذا ما حدث في النهاية وما أوصلنا إلى ما نحن فيه، وعلى رأي الساخر حد البكاء برناردشو «الديمقراطية لا تصلح في المجتمعات الجاهلة لأن أغلبية من الحمير ستقرر مصيرك». فما بالك حين كانت الديمقراطية أصلا مزيفة في ذلك الوقت الذي كان يهيمن فيه نظام ولاية الفقيه.
وكل هذا لا يُقصي أن في هذه البلد نسبةً مهمة ممن أخذوا اللقاح في تلك العقود وبعدها، لكن ما نعرفه أن الكفاءة عادة ما تتناسب طردياً مع الخجل، والخجل كان يمنعهم من خوض صراع المناصب، بل ويخيفهم من تقلد المناصب لأنها مسؤولية أخلاقية كبرى، وهذا الخجل للأسف ما يتيح الفرصة للأغبياء كي يتصدروا المشهد. مقولة برناردشو الساخرة التي يجب أن نأخذها على محمل الجد رغم حدة السخرية فيها، تشير إلى أن الديمقراطية ليست صندوقاً وأوراقاً وصبغةً، لكنها أعقد من ذلك بكثير، وهي لا يمكن لها أن تنهض إلا في مجتمع متعلم ومثقف وعلى قدر من الوعي، وهذا كله تصنعه المؤسسات المتعلقة بالتنمية البشرية والتعليم والتربية والبحث العلمي... إلخ. وحين يعيث نظام ما فساداً في هذا العتاد المعرفي فقد خلق مجتمعاً معظمه جاهلٌ حتى وإن كان بعضه يعلق على جدرانه الشهادات العليا، وهذه الأغلبية هي التي ستقرر المصير وفق آليات الديمقراطية المعروفة.
وأنا ذاهب منذ أيام إلى الصديق أحمد يوسف عقيلة للقاء الأصدقاء: نجيب الحصادي وعارف النايض، تذكرت مقولة برناردشو حين رأيت على جانبي الطريق لافتات مرشحي الانتخابات المحلية، وكل لافتة تحمل قائمة من أربع رجال وامرأة واحدة، يظهر فيها الذكور مبتسمين واثقين فرحين، بينما المرأة الوحيدة مطلي وجهها بالزواق، لأن وجهها عورة كما تتصوره عيون الأغبياء.
وفي حوار تحت شجرة الخروب، طرحتُ سؤالاً على د. عارف، مفاده لماذا هُزمت الفلسفة في منطقتنا وفضائنا الثقافي، أو شيء من هذا القبيل؟ واستعنت كمفتتح للحوار بتشخيص للصديق عمر الككلي يراود هذا السؤال، مفاده، أن الدين في منطقتنا حارب الفلسفة الغازية على أرضه، أما في الغرب فالدين كان هو الغازي والفلسفة حاربت على أرضها. وكما يقولولون الأرض تحارب مع ساكنيها.
لكن الصديق عارف فنّد هذا السؤال من أساسه لأنه مبني على فرضية خاطئة أو لم تُفحص، وضرب مثلاً دالاً: كأن أسأل أحدهم: هل ما زلت تتعاطى الحشيش؟ وسواء أجاب بنعم أم لا فهو في مأزق. وسرد عارف سيرة الفلسفة العربية والإسلامية التي لم تتوقف وإن تجلّت في تسميات تفكيرية أخرى. ورغم أني لم أقتنع تماماً، لكني استمتعت بهذا السرد الذكي والملم الذي تخللته مداخلات ذكية من نجيب الحصادي. ولأني فقدت أسلحتي في مواجهة مُطّلع أصيل على تاريخ الفلسفة بكل مشاربها، لُذت بالتفكّه وقلت: «أنا على الأقل عرفت أن الفلسفة هُزمت لمّا شفت الطلاء على وجه المرشحات في اللافتات وأنا جايكم هنا».
ظاهرة طلاء وجوه المرشحات الإناث متفشية في كثير من قرى وبعض مدن هذا الوطن الحالم، وهي إشارة أخرى لنجاح مشروع صناعة الغباء التي استمرت لعقود، إن لم تكن قروناً. أما حديثي عن الفلسفة الذي لا أعرف كيف وصلت إليه في مقالة اهتمامها آليات صناعة الغباء، فلأني ما زلت أعتبر أن خسارتنا الكبرى في حقل الفلسفة كإحدى آليات تمارين الدماغ البشري وتنمية الذكاء وصناعته، مع عوامل أخرى فُتك بها كلها في زمن الجمهورية والجماهيرية، وفي «دولة ليبيا» الجديدة المقبلة بحماس على استحقاقات ديمقراطية وهي ما زالت تعتبر وجه المرأة عورة. ورغم كل ذلك سنظل نحلم بانتصار الذكاء والمعرفة، وتحقيق حلم أن نلحق بغبار العالم الراكض بسعرة عبر نظام سياسي يليق بأن نكون بشراً في الألفية الثالثة.