Atwasat

متلازمة الديمقراطية والجيش الواحد

محمد عقيلة العمامي الإثنين 15 مايو 2023, 01:19 مساء
محمد عقيلة العمامي

أفنيت سنوات من صباي مأخوذا باليونان، كانت ملاذا لي إن ابتهجتُ أو حزنتُ، وكثرت رحلاتي إليها منذ أن جئتها أول مرة في منتصف ستينيات القرن الماضي، حتى إن أحد الرفاق أجاب ساخرا، بعدما سُئِل عني: «إنه بصحة جيدة، مسافر كالعادة إلى طرابلس عن طريق أثينا!!».وكدتُ أتقن اللغة اليونانية لو فقط طورت قدراتي في الحديث بها، ليس في الليل فقط، ولكن في مناحي الحياة كافة، لدرجة أن المرحوم الدكتور رؤوف بن عامر الذي يتقنها تماما مثلما يتقن الإيطالية والإنجليزية والفرنسية، وإن كانت مثلما أخبرني ليست بدرجة اللغات التي ذكرتها، كان أحيانا يمرر لي معلومة بسيطة، وخاصة بحضور آخرين باللغة اليونانية. كنتُ بالفعل أستمتع بإيقاع آلة «البازوكا» الوترية، التي هي على نحو ما شكل من أشكال آلة العود العربي، وصرتُ أفهم كلمات تلك الأغاني ومعانيها، بل وأحيانا أتغني بها.وقرأتُ الكثير عن تاريخها ورجالاتها من كتاب ومطربين وسياسيين، وأعجبتُ بشخصية زوربا التي جسمها «أنتوني كوين» وكتبها «نيكوس كزانتكيس» وأُخذت، شأن جيلي، بأحد مطربيها المشهورين عالميا في ذلك الوقت وهو (ديميس روسوس) الذي اشتهرت أغانيه باللغة الإنجليزية أكثر من شهرة أغانيه اليونانية.

ولمناسبة الحديث عن اليونان، أعرف أن «قسطنطين كرامنلس»، الذي تولى رئاسة وزراء اليونان أربع مرات متقاطعة ما بين سنة 1974 - 1985، كان هو من عالج مغبة الديمقراطية عندما رأى أن شعبه أساء توظيفها، على الرغم من أن هذا النظام وصلنا في الأساس من الحضارة اليونانية، وهو الذي قال عنه ونستون تشرشل: «إن الديمقراطية أسوأ نظام ممكن، إذا استثنينا الأنظمة الأخرى!» ويحكى عنه أيضا أنه في معرض حديث له سأل كاتب من إحدى دول أميركا اللاتينية، عن نظام بلاده السياسي، فأجابه : «لدينا حزبان، واحد منهما ديمقراطي يضم جميع الوطنيين الشرفاء المجدين الصادقين، والآخر يضم جميع الكسالى والمحتالين، لكن المشكلة لا أحد من مواطني بلادي يستطيع التمييز ما بين المنتمين لأحد هذين الحزبين!».

لقد أثبتت التجارب أن أي نظام ديمقراطي لم يتحقق تماما، إلا من بعد قيام جيش موحد منظم ومنتظم، يتصدى بقوة إلى أي تسلط من أولئك الذين يريدون توظيفه لمصالحهم، وليس لمصلحة أطياف الوطن كافة، وبمختلف قناعاتهم وتوجهاتهم. وكل التجارب الديمقراطية، منذ قيام الثورة الفرنسية التي لم تتحقق إلا بعد عشر سنوات من قيامها، وبمعنى أدق من بعد تأسيس «نابليون بونابرت» لجيش موحد وقوى، وصولا إلى الثورة البلشفية، التي لم تتحقق إلا بقائد جيش كبير وهو «لينين» الذي فرض نظام «السوفيت» التي تعني «المجالس». والحال لم يختلف لا في إيطاليا ولا في بريطانيا.

الديمقراطية تحتاج إلى النضج، والنضج يحتاج إلى معلم مؤمن، ومقتنع أن الإنسان وُلد حرا، وأنه أناني بطبعه، وهو يؤمن بالحرية ورفاهيتها، ولكن أنانية شهوة السلطة، أحيانا إن لم نقل في الغالب تحيد ضعاف النفوس وتقودهم إلى مصائب الاستحواذ عليها، لأنهم يريدون ديمقراطية على مزاجهم.

لقد تابع العالم صورا مشرفة لنقاشات ديمقراطية، مدنية، في السودان، بحضور قائدين لجيشين، وإن كانا بمسميين، وانتهت إلى اقتتال لا أحد يتمنى مغبته لشعب مثقف ومتعلم طيب وخير كالسودان. آخذين في الاعتبار أن في السودان قوتين حقيقيتين فقط تملكان السلاح. فما بالك ببلد، نصفه محكوم بعدد يصعب حصره من مليشيات كل منها له قناعاته التي لا تتفق مع أحد سوى قوته وسلاحه.

لا بد إذن، من جيش واحد قوي يكون هو الراعي الحقيقي، والحارس الأمين لأي نظام يريد أن يحقق ديمقراطية حقيقية.