Atwasat

الفوضى والفراشة والشياطين

رافد علي الإثنين 24 أبريل 2023, 11:36 صباحا
رافد علي

لا يتردد الفكر الفوضوي في الظهور بين فترة زمنية وأخرى وكأنه حالة من دورات الأجيال. فقد عاد للظهور مجدداً في الحركات التي نشأت في ستينيات القرن العشرين، واتسمت بنزوع قوي إلى التحررية، وسجل مؤخراً على أثير إذاعة SwissInfo الأكاديمي غابريال كوهن، وهو فيلسوف فوضوي من أصل نمساوي أنه «في إطار اليسار الجديد الذي نجم عن أحداث مايو 1968، تغير طابع الحركة الفوضوية. فالأبعاد الثقافية أصبحت تلعب دوراً أكثر أهمية، كما تقدمت فكرة التمرد على النظام البورجوازي على حساب الصراع بين الطبقات».

الفوضوية، كتيار يساري، بعد انهيار برلين وشيوع انتقاد الاشتراكية والسلطوية فيها وبالتالي فقدها لبريقها كأيديولوجيا في عصر السوق المفتوحة، من المثير معرفة أن العديد من الأفكار كـ«الديمقراطية القاعدية» و«التنظيم الأفقي» و«الريبة من الهرمية» ومبدأ «التحرك المباشر» قد اقتبستها العولمة في النظام العالمي الجديد من قاموس الفوضوية، فهذه الأفكار كانت شائعة في «الفقه» الفوضوي في صفوف المثقفين والأكاديميين، قبل أن تدرك الليبرالية أهمية تنظيم صفوفها الفكرية على صعيد الخطاب والتغلغل الثقافي كسلطة ناعمة، إذ بات عليها التفطن لأهمية رصيدها المعنوي أمام غريمها الخطاب اليساري منذ الحرب الباردة وحتى ما بعد أن حل يلتسن بموسكو.

لقد انطلقت المرحلة الأولى من تاريخ الحركة الفوضوية في مدينة سانت انيه السويسرية الصغيرة الواقعة في إقليم جُـورا شمال غرب البلاد والمحاذي لفرنسا، حيث تميزت المدينة بحضور بارز للفوضويين في الحركة العمالية لعدد من البلدان، وتأثرت بالتجربة الثورية لكومونة باريس وبالسوفيات الأوكرانيين وبالثورة الإسبانية، ولم تنته هذه المرحلة إلا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
كتب دافيد غرايبرعالم الأنثروبولوجيا الأميركي، وأحد الوجوه البارزة لحركة «احتلوا وول ستريت» المناهضة للعولمة يقول: «في أيامنا هذه، تحتل الفوضوية ضمن حركات اجتماعية أخرى المكانة التي تحظى بها الماركسية في حقبة السبعينيات وما بعدها».

الفوضوية ليست مذهباً اشتراكياً صرفاً، وإنما له معتقدات تلتقي مع الفكر الاشتراكي في رفض النظام الرأسمالي القائم، وتدافع عن حقوق الطبقة المظلومة، كما أنها ليست مذهباً ليبرالياً خالصاً بالرغم من التقائها مع الفكر الليبرالي في تمجيد الفرد والحرية الفردية، فمن التيارات الفوضوية المعروفة الفوضوية التي تعزز الأنا وتمنحها كل الأولوية في تحقيق ذاتها ورغباتها، وأن كل ما عداها من أفكار، كالأخلاق والدولة والمجتمع والإنسانية، لا تعدو أن تكون سوى «تجريدات وهمية» خلقها الإنسان ذاته وجعلها مثلاً عُليا يخضع لها طيلة حياته مستبدة على مقدراته ومحددة لسلوكه. الفرنسي جوزيف برودون Joseph Proudhon يعد من أبرز كُتاب الاتجاه الثوري في الفوضوية صحبة الروسيين داكونين وكروبوتكين، الذين اعتبروا أن الفوضى ستمنح الإنسان القدرة على استيعاب ضرورة خلق النظام. التيار الثوري في الفوضى هو الأبرز مقارنة بتيار الأنا، والذي عبره دار السجال المؤدلج والشهير بين «فلسفة البؤس» و«بؤس الفلسفة» بين أفكار ماركس وبوردون كما هو معروف.

Creative Chaos أو الفوضى الخلاقة، كشعار سياسي شاع بالمنطقة العربية بعد الحرب الباردة وأزمة بغداد مع الغرب؛ فكرياً ليس بعيداً عن نطاقات التيار الفوضوي، إذ يرى البعض أن المستشار السابق لمجلس الأمن القومي الأميركي مايكل ليدينن، أحد أهم منظري المحافظين الجدد هو أول من استخدم المصطلح العام 2003، بينما حقائق التاريخ تشير إلى غير ذلك، الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه تبنى «الفوضى» قبل العام 1886، حين عكس في أشعاره إيقاعاً إبداعياً، فخالف قواعد الشعر وقدم نصوصه النثرية المبدعة التي كسرت قيود الوزن وأدخلت العالم إلى عوالم الرمزية، التي سيبني عليها لاحقاً الشاعر بول فاليري نظريته في الأدب، وتتبناها لاحقاً فروع فنية أخرى كالتكعيبية التي لا يزال الإسباني بيكاسو على رأسها حتى اليوم، (فلسفة الفوضى، سلافوي جيجيك، ترجمة عماد شيحة. ط١. دار الساقي)

الفوضى كملمح في طبيعتنا العامة حالة يتصاعد فيها عدم اليقين، إذ ننظر لراهننا كنتاج لماضيه وسبب لمستقبله، فالخلاص يكمن في الألمعية التي تستطيع ذات لحظة معرفة جميع القوى التي تحركنا وتحرك الأشياء من حولنا، حتى وإن كانت مجرد «رفرفة أجنحة فراشة»، الذي صار شعاراً ذائع الصيت في نظرية الفوضى، باعتبار أن التفاصيل الصغيرة يكون لها أحياناً تأثيرات كبرى، فالفوضى، عند الفوضويين مهمة لأنها نوعا ما تساعد على التعامل مع النظم غير المستقرة من خلال تحسين القدرة علي توصيفها وفهمها، بل وتوقعها أيضاً.

إدورد لورينت ذكر بنظريته «الفوضى» العام 1963 أنه حين تصفق الفراشة بأجنحتها في البرازيل تخلق تغييرات صغيرة في الجو المحيط من ممكن أن تؤدي نهائياً إلى إعصار أو تمنع تشكل إعصار في تكساس. أساساً لا يحدث الإعصار بسبب رفرفة أجنحة الفراشة. هذا يبدو معارضاً للطبيعة، ولكن القصد بالأساس بأن أي شيء نفعله له أهميته، كل فكرة نفكرها، كل كلمة نقولها، كل ضربة رقيقة من أجنحتنا المرسومة بعيداً عن أن تكون تافهة أو تائهة مع الريح، الأشياء الصغيرة التي نعملها لها قوة لتغيير مسيرة الرياح بحد ذاتها، لكن ليونارد سميث في مؤلفه Chaos عن أكسفورد ايسبريس 2007، يرى أن ثمة فرضية بديلة لقصة الفراشة البرازيلية، وهي أن هناك عالماً تخفق فيه فراشة بجانحيها وعالم موازٍ لا تفعل فيه ذلك، بما يعني وجود فارق بسيط هو ظهور الأعاصير ورياح في عالم دون عالم آخر، وهو ما يربط الفوضى بفكرة عدم اليقين والتوقع، رغم محاولات الرياضي بيير لابلاس بالقرن الـ19 الاستعانة بـ«شياطينه الثلاثة» لكبح شراسة الفوضى وضبط اليقين عبر المعرفة الدقيقة بالقوانين والقدرة على صنع صورة للحالة الدقيقة المعاشة، والكفاءة على تحليل المعطيات لخلق توقع يقارب اليقين أو الحتمية المستقبلية التي ستتحقق.

فوضانا الليبية المعاشة، بكل عشوائيتها وبشدة العوز الفكري فيها، لا نزال في خضمها نمارس الكسل، ونسرد بكائيات ضياع المملكة وتلاشي الجمهورية وسقوط عصر الجماهير ونضالات رجال فيها جميعاً، دون أدنى التفات حقيقي لفهم فوضانا الراهنة، بعيداً عن أساليب جلد الذات، وصب اللعنات على ليبيتنا. المثير في فوضانا المعاشة أيضاً أنها، مع انتشار وسائل الاتصال وشيوع التواصل فيها، اتسمت فوضانا بالسفسطة بمعناها الدارج لا الفلسفي العميق، و لاح غياب أي جهد بارز لتحريك الراكد على مستوي الفكر والإبداع ومن صميم الفوضى ذاتها، التي بان فيها مدى تضخم الأنا الليبية التي قد تُسخر لها الفوضى الحالية الأنانية كمبدأ أخلاقي سائد، إلا أن الفوضى ستظل كتيار بفراشتها وبشياطينها لا يمكن أن تؤيد الحمقى وفرديتهم فيها بحسب رؤية جيمس راتشيلز وهو يناقش الفردية ومبرراتها الأخلاقية.