Atwasat

حب الذات أعمى! (من سيرة صحفية فرنسية)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 21 فبراير 2023, 12:32 مساء
أحمد الفيتوري

كنتُ في الجامعة، طالعت أطروحات غاندي. كفرنسية تواجه أخطاء ومظالم السلطة بالتظاهر الحر، وعبر صندوق الانتخابات ما يحسم الأمر، وجدت غاندي النجم الذي أهوى، فكان لأطروحاته في نفسي مطرحٌ. رفضت العنف منذ الصغر، خالفت جدي بل شجبت مواقفه، لم أقبل بمشاركاته في حروب فرنسا الإمبريالية، كذا فعلت مع أبي، من وصمته بأنه يميني متطرف، لما حاول ذات مرة تبرير فعل أبيه. ومن هذا استغرب أبي تمردي، ما لم يكن على شاكلة تمرده، تمرد يساري الستينيات، فمشاركته في ثورة مايو 68 الطلابية، ما جعل بعضهم من "ماو" نجمًا، ومن كتابه الأحمر إنجيلا، ومن ثورته الثقافية سبيلاً.

من ذاك استهوتني مظاهرات الربيع العربي السلمية، ما شاهدت عبر محطات التلفزيون المباشرة، صار العاجل يخض تمردي وفرائصي، فاشرأبت روحي إلى الصحراء الكبرى الثائرة، من مصر حتى تونس، أردت الغوص في خضم تلك الثورة. أعدت إحياء علاقة عابرة مع شاب مصري، التقيته في باريس يدرس اللغة الفرنسية، وبعيد عودته تواصلنا عبر الفيس بوك، اتصلت به باعتباري المغرمة السابقة، استدعينا مغامرتنا الحميمة. ثم مدحت ما يحدث في مصر، تحدث عن تمرد ميدان التحرير، لم يرضِه وصفي لما يحدث بالتمرد، تملصت من ورطتي، بأن غاليت في مدحي له ومشاركته باعتصامه في الميدان، ثم فاجأته بأني عزمتُ على مشاركته. هكذا وصلت القاهرة، ولما اندلعت مظاهرات بنغازي رحلت دون أن أراه، رأيت أن السفر إلى بنغازي سباحة في المجهول، فلم أكن أعرف عنها حتى ألف باء.

قاطعني رفيقي المنصت الهائم، فذكرني بغزالة الطفولة هدية جدي، ثم علق علها المعرفة الوجدانية المغروسة في العقل الباطن، ووكد أنها أول ما ذكرت له من ذكرياتي. جدي جلب الغزالة معه من زيارة سياحية لليبيا بالباخرة، ما غادرت من ميناء بنغازي، لهذا أطلق على الغزالة برينتشي الاسم الروماني لبنغازي. لقد اعتبرت ملاحظته الذكية مغازلة لي أيضًا، فقد أطلق رفيقي عليَّ، بتواطؤ بيننا، اسما عربيا هو غزالة، بعد أن رويت له من مسارب الذاكرة تلك الحادثة. ولعل هذا ما لطف تبرمه مني، بسبب أطروحتي في اللقاء، ما تم صباحًا في مقر الجامعة، ولقد اعتبر الرأي الذي أدليت به مناكفة له، لقد كنا على طرفي نقيض، حتى بعد أن اندمجنا في الحديث بالسيارة، وقد عدنا إلى ذلك في البيت لما انفردنا، حيث في اللقاء كان مضطرًا للترجمة، لأن الحضور لا يفقهون كلمة في الفرنسية، باستثناء كلمتي صباح الخير، وحب.

أثناء تناول العشاء ورفيقي وجمع من أهله تواصل نقاشنا، لكنْ رصاص لعلع عن بعد، قطع حبل الحديث وسكون المدينة، التي لم أسمع ولم أر فيها أي مظهر مسلح. خرج رفيقي وبعض من شباب أهله، على عجل مشوب بالهلع، ليتبينوا النبأ المسلح، فيما انتابتني هواجس أن يكون التحارب في شمال البلاد قد طال جنوبها، ما أقيم الآن في عاصمته، وعند طرف فيه منحاز إلى ثوار الشمال. لما عاد وكد لي أن الصحراء ليست جدبا ينقطع عنه البشر، بل إنها كالبحار طريق صعب يجذب الأقوياء، وأكثرهم من المجانين، شذاذ الآفاق من هم من المتمردين. هكذا التحارب في البلاد، كما مغنطيس اجتذب الحديد في المنطقة، وويل لنا من هكذا جذب. سكت ووضع رأسه بين يديه، كمهموم أثقل كبره كبرياء العمر، كنت عرفت منه أنه عاش عمرًا مثقلا بالصعاب، لكن الآن نال منه وهن العظام، فقد غدا العمر نفسه ثقلًا، لذا لم أسأله عما يحدث، فالرصاص الذي يلعلع لم ينقطع، وكان بطبعه مرتابًا كثير الشك، فأردت أن أنتزعه، من مستقبل يظنه خطرًا، إلى لحظتنا.

قلتُ مواصلة حديثنا، قبل أن يندلع إطلاق النار، ما لم يخبرني كنهه: أذكر أني قرأت في سيرة للمهاتما غاندي في جنوب إفريقية وقد كتبها بقلمه، ثم نشرها "مستر أندروز" أحد مريديه، وراجعها غاندي بنفسه قبل نشرها، وقد راجعت أثناء غيابك، مقالة عبر الإنترنت حول ذلك الكتاب، ما ذكرني بقول فيها لغاندي، بما معناه: أن حب الذات أعمى، وفي الحروب ليس من حب الذات من محيص، فيكون العمى هو السيد... لم أكمل. تنبهت إلى أن رفيقي ليس في رفقتي، لكن سرعان ما عاد معلقًا: مثلك من الأوربيين يمحصون كثيرًا، يمخضون اللبن كثيرًا، وفي الختام المسك، يتبدد كما مسك الليل مع أول ريح تهب.

فرحت في نفسي لعودته إليّ فناكفته: وأنت كما جدي وأبي، من يعتبرون العمر نهبة والحياة حربا. طال ليل الصحراء، على خلفية تبادل نار متقطع، كما طال حوارنا، رفيقي شاغله مستقبل بلاده الغائص في الحاضر المدوخ، نصيره من الماضي، رمز من بلاده الشيخ عمر المختار، مَن نازَع الاحتلال الإيطالي بكفاح مسلح، حتى شنقته إيطاليا الفاشية بعد أسره، وفي مواجهته كان نصيري غاندي، ما استعرته من تاريخ البشرية، وليس من تاريخ بلادي فرنسا، المليء بمناهضة مبدأ غاندي، الذي هو مسيحي، من يمنح خده الأيمن لمن يصفع خده الأيسر.