Atwasat

محمد الأصفر وألوانه الأخرى

سالم العوكلي الثلاثاء 18 أكتوبر 2022, 11:31 صباحا
سالم العوكلي

حين التقيت بمحمد الأصفر لأول مرة كان قد (قرر) أن يكون كاتباً، أو بالأحرى سارداً، بدأ بالتدرب في ملعب مسقوف على القصة القصيرة التي أبدع فيها، لينتقل بعدها مباشرة إلى ماراثون الرواية في الهواء الطلق، لم تكن ثمة مقدمات للأصفر ليكون أديباً، سوى رسائل كان يرسلها لبعض الفتيات في ركن التعارف في بعض المجلات، بما يشبه طلب الصداقة الآن في مواقع التواصل، وحين أراد أن يكون روائياً قرر ذلك بكل بساطة، لدرجة أن الأصفر لن تجد لديه تلك الخواطر التي نكتبها مراهقين ونعتبرها مبشرةً ما أصبحنا عليه، ولدرجة أن الأصفر حدد في تعريفه تاريخاً دقيقاً لبدايته الكتابة، باليوم والشهر والسنة، حيث كما أتخيله استيقظ ذات يوم كما يستيقظ أي مواطن على كباية حليب بالشاهي وكسرة خبز بائتة، واتخذ قراره بأن يبدأ الكتابة.

لن يحدثك الأصفر، مثلما يفعل بعض الكُتاب بعد أن أصبحوا كباراً، عن طفولة معجزة كانت تهيئه لأن يصبح روائياً كبيراً، أو كما يفعل الأنبياء أو الطغاة. لن يحدثك عن مكتبة تركها له والده، ولا عن معلم اللغة العربية الذي كان معجباً بما يكتبه في مادة التعبير، ولا عن حكايات كانت تسردها له جدته أو خالته أو أمه، ولا عن كاتب من الجيل قبله، شجعه أو تتلمذ على يديه. قرر في لحظة ما أن يكون روائيا وفي جعبته الكثير من الروايات التي قرأها في أوقات فراغه، وأستعد لتجاوزها، بل والسخرية منها والتهكم عليها بمضمون وأسلوب كتابته، وربما يقف وراء هذا القرار كما أخبرني مرة قصة حب عاشها دون أن يريد لها أن تكتمل بعد أن تعرف على فتاتها في ركن للمراسلة في إحدى المجلات، وكأنه التقى سراً بإلهة الفن وأخذ منها التميمة وعاد إلى عالم الرواية المقفى ليعيث فيه نثراً بروايات متسكعة وساخرة من كل شيء تشبهه تماماً، تمشي مثله، وتضحك مثله، تقول ما يخطر على بالها مثله، وتتهكم على الأصدقاء مثله، وتتجرأ على قول الكلمات النابية مثله، فبالنسبة للأصفر كل كلمة دخلت اللغة او اللهجة يجب أن تدخل الأدب رافعة رأسها ومهما كانت قليلة الأدب.

جاء الأصفر إلى درنة مرة أخرى بعد أن تمكن من السرد بطريقته الخاصة، وغاص في تفاصيل المدينة، وتعرف على أهم صعاليكها، بينما كل ما يراه يتحول إلى جملة أو عبارة أو فصل في رواية، يُلّقط كائنات رواياته مثلما يلقط متشرد أشياءه اللافتة من مكبات المدينة، ولا يعرف ما سوف يحتفظ به أو يرميه ليلتقطه متشرد آخر.

وضع اسمي في أول رواية كتبها قبل حتى أن ألتقي به أو أتعرف عليه، وصنع حكاية من خياله عني لكنها تناسبني، وأعجبتني كثيراً لدرجة أني تبينتها كجزء من سيرتي، وما السيرة سوى ما يتصوره الآخرون عنا أو انعكاسنا في أذهانهم، وكما قال لي يوماً في مربوعتي، كل ما أدخله في الرواية سيصبح تاريخاً، وحين ألف حكاية تليق بكونداليزا رايس تقول إن جذورها من حي الباطن في درنة، كان قد رأى امرأة سمراء تشبهها تبيع بضاعة شنطتها على بسطة في سوق الظلام، وكان على يقين أن هذه المعلومة المتخيلة ستصبح تاريخاً مع الوقت.

لا يطرح الأصفر، غالباً، الوقائع كما هي، بل يؤلف عن الأشخاص القريبين من نفسه، حباً أو مقتاً، وقائع تناسبهم لو عاشوا في عالم آخر يشبه روايته.

يكتب الأصفر ما يفكر فيه مباشرة بعد أن قتل الرقيب الذي يعاني منه كتاب آخرون، ولا يهمه من يزعل أو لا يزعل، لأنه يعرف أن الجميع سيعرفون في النهاية أن الأصفر رجل طيب جداً، لا يقدر على أن يؤذي كائناً، رجل طيب لكنه روائي، وسيتحدثون عنه مثلما يتحدث الآباء أو الأمهات عن شقاوات أطفالهم المحببة.

في درنة كان يأتيني منتصف الليل ويطلب مني أن أطبخ مكرونة، وكنت أطبخها سعيداً، لأني أنا أيضاً في حاجة لها ولنديم يعرف قيمة المكرونة الحارة في منتصف ليل شتائي، ولأن هذه السجية الجميلة تجعله مقرباً من النفس، لا يمكن أن يكذب عليك ويقول لك تعشيتُ وينام جائعاً، يقول ما يفكر فيه دون فلترة، ويفعل ما يرغب فيه مثل روايته بالضبط، وما سوف يتفق عليه الجميع أن هذا الروائي متصالح وصادق مع نفسه لدرجة الإرباك لمن لا يفهمه، وسوف يتفقون في النهاية على أن قراءة رواية الأصفر ممتعة، وما قيمة الفن، أي فن، إذا لم يكن ممتعاً. وبعدها سيقول: قولوا ما تقولون، استخرجوا منها ما ترغبون من حِكَمٍ تطربك أو رسائل أو أفكار أو مواعظ، هذا شأنكم، عذبوها بمناهج النقد كي تبوح بما قالته وما لم تقله مثلما يفعل المحققون مع أي مشبوه مسكين. أنا أكتب لأستمتع، وأكتب لأُمتِع، لن أفشل في الأولى أما الثانية فرهن بكم. ثمة أشخاص يرفضون الاستمتاع، بل يتطيرون منه مثلما يتطيرون من الضحك، ويتصيدون الأخطاء والزلات، وثمة من يستهويهم التطهر من خلال صب جام غضبهم على النصوص المارقة، ويقول لهم أيضاً: هذا شأنكم، فكم من شخص تقدم له كأس ويسكي فيستعيذ بالله ويطلب كوب شاهي ثقيلاً، وهذا شأنه. وكم من شخص دعته امرأة ذات مال وجمال، فقال إني خائف، وهذا شأنه.

مارس الأصفر قبل أن يقرر الكتابة مهنة تاجر شنطة، وبهذه التجارة تسكع في الدنيا، وأعتقِدُ أنه مارسها في عقد الثمانينيات، زمن الأسواق العامة التي جعلت الليبيين يلبسون ملابس موحدة مثل صين ماو، وجعلت الحكومة تتكفل بذوق الشعب ومزاجه في كل شيء مثل ألبانيا البولشفية، وفي ذاك الوقت كان تجار الشنطة يخترقون هذا الحصار، والجميع ينتظر الشناطي شبه المهربة التي تعبر المنافذ بصعوبة لعل فيها بنطلونات جينز، أو فساتين سهر لشعب لا يسهر، أو قطع شوكولاتة، أو حلوى، أو قرن موز، أو إصبع أحمر شفاه، أو أي شيء مُنع استيراده إلى ليبيا في زمن أمْرِ القايد بربط الحزام، وهتاف مريديه: بالخبزة و«الما قررنا الحيا»، قال الزعيم المهرطق: إن التمر يغني عن كل أنواع الفاكهة والحلويات، وإن ربطة العنق رمز صليبي، وإن من يكتب ديوان شعر غزلي عليه أن يطبع نسخة واحدة ويرسلها لحبيبته المعنية به، وغيرها من شطحات البطاركة اللاتينيين في روايات الواقعية السحرية، لكن الأصفر بعيداً عن الواقعية السحرية، يحيل كل هذه الكوميديا الخضراء إلى خلفية لشخوص ينبشون مزابل الحياة بحثاً عن أحلام قابلة لإعادة التدوير.

قال صديق شاعر عن رواية الأصفر إنها تشبه شنطة التاجر، كل شيء يمكن أن يوضع فيها، وقال شاعر صديق آخر إن رواية الأصفر مثل حوض السباحة يمكن أن تقفز فيه من أي جانب، وكلها تشبيهات ستعجب الأصفر الذي أراد منذ البداية أن لا يشبه أحداً سوى نفسه. البعض شبهه بمحمد شكري، لكن شكري كان جريئاً دون أن يكون فناناً، والأصفر كان جريئاً وناثراً فناناً.

لم يُغرِ الأصفر أن يكسب قُرّاءه عبر كتابة ورعة تراعي مشاعرهم، أو أن يداهنهم ببطولات زائفة، وكان يعرف أن الرواية حياة ومجتمع يحركه الروائي، وكل ما يخطر أو لايخطر على البال موجود في الحياة وفي المجتمع، ولم يحب تلك الغرابيل المنافقة التي يهزها البعض كي تعطي طحيناً روائياً نقياً من كل الشوائب، وحتى الشوائب والعيوب بالنسبة له تستحق الاحتفاء، احتفاء بالكائن الإنساني كما هو لا كما تريده بيانات الأخلاق أو غرابيل السِّيَر الذاتية التي غالباً ما تُكتب بعد مرورها بمحطات التحلية.

التاريخ يكتبه الأقوياء المنتصرون، وفن الرواية تاريخ يكتبه الصعاليك المهزومون، ولهذا السبب سنجد قاع التاريخ وتاريخ القاع في روايات الأصفر؛ لأنه يقدم الكائن الإنساني تنهيدةً وليس أسطورة، موالاً وليس دعاءً، وأحياناً يعيده نطفة ليستجوب ملحمة وجوده، لأن ما يحرك التاريخ في عرف روايته هي الغرائز وسيرة الجينوم، وليس النخب ولا السرديات الكبرى.

ما جعلني أكتب هذا المونولوج حيال الأصفر الذي أحببته إنساناً وروائياً، أن جاءني يوم 12 أكتوبر 2022 الأستاذ عبدالسلام بوشيحة والدكتور حسين القرقني، المقيم في ألمانيا، وأحضرا لي روايتين أرسلهما لي الأصفر، من ألمانيا: «علبة السعادة» و«بوق»، إحداهما شطب إهداء قديما على الصفحة الأولى وكتب إهداءً باسمي على الصفحة التالية: «الصديق المبدع سالم العوكلي.. مودتي وتقديري وكل الحب. صديقك الأصفر. 25/ 9 / 2022»، والثانية «بوق» دون تقديم.

سألت القرقني عن وضع الأصفر مع اللغة ومدى تواصله مع محيطه الألماني، ثم تذكرت أنه وجد صعوبة أيضاً في التواصل حتى مع محيطه الليبي. فلم أنتظر الإجابة، وشرعت في قراءة إحداهما، وأصبحَتْ توقظني آخر الليل لأقرأ مثلما كان يوقظني الأصفر آخر الليل ليحدثني عما اصطاده اليوم من حكايات وشخصيات ستدخل روايته االتي يشتغل عليها. ويمشي الحال، كما يقول دائماً.

قد أكتب عن هذه الروايات، وقد لا أفعل، لأني أصبحت أفكر أن الكتابة عن الأدب قلة أدب، تشبه شعوذة طقوس إخراج الجن من الأجساد الغاضبة، أو تشبه كُتبَ تفسير الأحلامِ الغبيةَ.