Atwasat

القناعة والثقة في الله

محمد عقيلة العمامي الإثنين 18 يوليو 2022, 01:26 مساء
محمد عقيلة العمامي

يقال أن المنصور، وهو الخليفة العباسي، الثاني مشهود له بالورع والتقوى، كان قد كتب إلى الإمام جعفر الصادق أحد الأئمة المبجلين لدى السنة والشيعة، يسأله: «لِما لا تزورنا؟» فأجابه: «ليس لنا من الدنيا ما نتطلع إليه، ولا عندك من الآخرة ما تعطيه لنا، ولا أنت في نعمة نهنئك بها، ولا في نقمة فنعزيك». رد عليه الخليفة: «تصحبنا لتنصحنا». فأجابه: «من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك». وبالإضافة إلى كون الإمام جعفر الصادق سعيداً في حياته، كان عالم فلك، ومتكلماً، وأديباً وفيلسوفاً وطبيباً وفيزيائياً.

(1)
في سبعينيات القرن الماضي، أُخذت باليونان، وكثرت زياراتي لها لسبب أو بدونه، وزرت الكثير من جزرها وقراها. أعجبتني قرية بسيطة قريبة من مدينة تأسست من ميناء لصيادي الأسماك والإسفنج، اسمها (خالكيدا)، عند مدخلها موتيل صغير، كثيرا ما أقضي به وقتاً طيباً. ذات صباح كنت أتجول عبر شوارعها البعيدة نسبياً عن البحر. فى شارع مترب، غير مرصوف، ممتد من المدينة نحو منطقة زراعية غير بعيدة عن البحر، تشبه كثيراً منطقة (اللثامة) المتاخمة للبحر في بنغازي؛ وهي تتميز بالنخيل، الذي يندر كثيراً إن لم يكن معدوماً في اليونان وأذكر احتفالاً أقيم بأثينا ذات صيف لأنهم استوردوا نخلتين زرعتا هناك، ولا أدرى إن عاشتا أم لا؟

كانت اللثامة مشهورة بـ (الرطب) الذي نسميه في ليبيا (البرلصي) ونوع ثاني اسمه (طابوني) ولكنني لم أعد أراهما منذ زمن ستينيات القرن الماضي الجميل، قد يكون نخيل هذه التمور، تأثر بحلب (اللاقبي) الذي حل في وقت من الأوقات محل الخمور التي منع استيرادها وتداولها في اليوم الرابع من إعلان ثورة سبتمبر!

تربة (اللثامة) حيث النخيل شامخ، رملية مختلطة بالطين، هي مناسبة لزراعة البصل الأخضر، والخضروات الخيمية، مثل البقدونس والكزبرة والشبت، والأربعة هي أساس طبق ليبيا الشهير، (العصبان)؛ إذ ليس ثمة أسرة ليبية لا تعرفه، حتى إن أهالينا الأمازيغ يسمونه معدونس!

(2)
ابتسامة عجوز مشرقة استقبلتها بابتسامة واسعة. وقفت أمامه. حييته، دعاني للجلوس دافعاً لي بصندوق خشبي صغير كالذي مُتخذه مقعداً. رحب بي. بيني وبينه صندوق ثالث، يستخدمه كمنضدة؛ فوقه صحن معدني واسع، وبمطواة قطّع حبتي طماطم ناضجتين، وكبيرتين إلى نصفين، رش نصفيهما بقليل من الملح، ثم أضاف زعترا بريا، ثم سكب فوقهما من إبريق معدني زيت زيتون أخضر فاحت رائحته. أعاد النصفين الثانيين فوق النصفين الفائحين بالزعتر، ونظر إليّ وابتسم وقال: «سنتركهما قليلاً حتى تتشبعا برائحة الزعتر وتمتصا الملح» واستطرد: «رأيتك مرات في حانة فندق (مانولي) بالمناسبة أنا اسمي كاسمه.. ». جاءت زوجته برغيف خبر ساخن وفائح، إنه كالخبر الذي نسميه (حلوزي) وكانت الأسر اليونانية كثيرة في شوارع النصارى، هكذا كان يطلق على شوارع: محمد موسى، وفياتورينو- شارع بن الخطاب – وزارة ومصراتة و (سنتا بابرا) في وسط البلاد ببنغازي. كانت النسوة اليونانيات يخبزنه في بيوتهن ويأخذن أطباقه إلى كوشة شارع محمد موسى مقابل ورشة التركي القريبة من ورشة اليوناني العجوز (مانولي) أيضا! وكانت له خمس فتيات جميلات! إحداهن تسمى (كليو) وأخرى ( ديمترى)، أكبر البنات منّ عليها الله بالإسلام وتزوجت أحد أبناء بنغازي المرموقين وأنجبت منه عدداً من الرجال. حدثته عن (كريداكس) أحد أعضاء مجلس بنغازي البلدي، وأبنائه (الهلاليون) جدا. هكذا حدثته عن شارعي وعن أبناء عمومته الذين ولدوا وعاشوا معنا، مثل لفتيري الذي كان يدعي أنه صائم معنا نحن صبية شارع محمد موسى، والذي رفض مغادرة بنغازي بعد ثورة سبتمبر، وكانوا نعم الجيران أغلبهم يتحدث لغتنا، بل وبعضهم، مثل (ايليو زرافتس) يغني بالعلم!

تعددت زياراتي لمانولي، وأصبحنا أصدقاء جداً. لم يكن في بيته أثاث يذكر، وعرض عليّ أن أقيم معه في حجرة ابنته التي هاجرت إلى كندا بدلا من إقامتي في الفندق، وبالفعل ظللت أقيم عنده كلما أزور تلك القرية. كنت حينها أحاول أن أتعلم اللغة اليونانية! أمام بيته مساحة صغيرة يزرعها بالطماطم والخضروات اليومية حسب موسمها مثل الكوسة وبالباذنجان والجزر، يأكل منها وما يفيض منها من كميات بسيطة يقايضه به مع محل البقالة. ومن عريشة وافرة، يصنع نبيذه. ويقطر من بواقي العنب مشروب (الأوزو) اليوناني الشهير. وكان سعيداً.. سعيداً للغاية، ما إن يحتسي قليلا من الأوزو حتى يشرع يغني أغاني كأغاني(العلم) الليبية. لم أره طول معرفتي له إلاّ متبسماً ضاحكاً. لم يشتك مطلقاً من أي شيء. كان قنوعاً بحياته، فخوراً بها. القرية كلها تحبه وتحترمه. وكان يبادلهم الإحساس نفسه. كان متناغماً مع نفسه سعيداً بها.

(3)
الكاتب الأميركي الساخر الكبير (مارك توين) يرى أن السعادة هي القناعة، يبلغ المرء قمتها، إن رضي تماماً بحياته، في حين أن فيلسوف فرنسا الكبير: (جان جاك روسو) الذي يقولون أنه من أشعل الثورة الفرنسية، يرى أن السعادة: «هي الطموح، وأنه لا سعادة دون طموح». أما فيلسوف القانون الفرنسي (مونتيسكيو) فيقول: «لو قنع الناس بما هم فيه من سعادة لعاش العالم كله في سلام .. ».

وفي تقديري أن السعادة تكمن في راحة البال، التي تتحقق بالقناعة، فمن منا لم ينتبه إلى سعادة الجائع وهو يرفع لقمته بـ (العيش) الطري، من صحن فول المدمس، الفائح بالزيت والكمون والليمون وهو يمضغ على مهل لقمة، ويلحقها بوريقات الجرجير؟ سعادته وهناؤه وقناعته بوجبته، لا يجدها رواد المطاعم الفاخرة، وفنادق الخمس نجوم.

السعادة لا تتحقق، بتكديس المال، وتشييد القصور، وركوب السيارات الفارهة. إنها تتحقق بالقناعة بما لديك كثيراً كان أم قليلاً. قناعة بأنك خليفة الله في الأرض، وأنك قادر على خلق السعادة، من دون الدولار، الذي لم يخلقه الله وإنما خلقه البشر وكتبوا فوقه: «أنهم يثقون في الله»