Atwasat

(رأس لحم)!!

صالح الحاراتي الخميس 24 مارس 2022, 02:33 صباحا
صالح الحاراتي

عبارة سمعتها فى كثير من المواقف وأشهر تلك المواقف، عندما يتحاور أحدهم مع آخر وترتفع حدة النقاش تخرج تلك العبارة ليقول أحد طرفي النقاش للآخر "امشي يا راس اللحم"، والمعنى المقصود بـ "رأس اللحم" هواستخدام كلمة "رأس" كناية ووصفا لعقل به من الغباء والجمود والانغلاق وعدم التفكير الحظ الوفير.

كنت أضحك حين سماع تلك العبارة وأشعر أنها عبارة واقعية جدا، وربما صحيحة حتى فسيولوجيا.. وحاولت تأمل معناها ودلالاتها حتى أتبين دقة العبارة لغة واصطلاحا، لعلنا نكتشف أن العبارة تُعد منتجا إبداعيا اجترحته لهجتنا المحلية.
الراس، كما هو معلوم، يحوي الجمجمة التى تحتضن المخ سيد أعضاء الإنسان، وكذلك يوجد بالرأس العين والأذن والأنف والفم أدوات تعطى للإنسان حاسة البصر والسمع والشم والتذوق، فكيف يكون حال كل تلك الحواس لو كان الرأس كتلة مصمتة صماء من اللحم .

لنرَ، بداية وباختصار شديد، مما يتكون المخ.. فالمخ يتكون من أنسجة رخوة تشمل المادة البيضاء والرمادية، التي تتمثل بخلايا عصبية وخلايا غير عصبية وأوعية دموية.. ومهمته هي القيام بالتحكم في معظم أنشطة الجسم، وذلك بمعالجة ودمج وتنسيق المعلومات التي يتلقاها من الأجهزة الحسيِّة، ويتخذ القرارات فيما يتعلق بالتعليمات المُرسلة إلى باقي أعضاء الجسم..

مع ملاحظة مهمة هنا وهي أن كلمة "العقل" كلمةً معنويّةً فقط ويُقصد بها القدرة على التفكير وهي الخاصيّة التي يتميّز بها الإنسان عن الكائنات الحيّة الأخرى، أمّا المخ فهو المفهوم المادي ويتمثّل بالعضو الموجود داخل جمجمة الرأس البشري، ويحتوي على مكونات أخرى كجذع الدّماغ والمخيخ .

اما "اللحم" فهو العضلات الهيكلية التى تتكون من ألياف وتتصل بالهيكل العظمي بواسطة الأوتار، وتساعد على تحريك الأجزاء الهيكلية من الجسم عن طريق الانبساط والانقباض. وهي عضلات تنقبض وتنبسط حسب إرادة الكائن، أي عن طريق الجهاز العصبي الذى يترأسه المخ.. لذا فالعضلة مفعول بها، أي لا تتحرك إلا بعد أن تأتيها أوامر الحركة من المخ، فهو الفاعل والمحرك، مع ملاحظة أن سكون العضلة سيسبب لها الضمور لاحقا.. وهنا جاءت لى فكرة بأن هناك معنى آخر خفيا قد يساعدنا في فهم العنوان، فربما "راس اللحم" مشتقة مِنَ اللِّحَامِ أي "عقل منغلق" كما هو حال قطعتين من المعدن يتم لِحَامِهما .

إذاً الرأس يحمل الأدوات التي تؤدي حاسة البصر والسمع والتذوق والشم، ولكن إذا تخيلته مكونا من كتلة من "اللحم المصمت" دون وجود المخ، لطمست تلك الحواس وفقدت قدرتها وفاعليتها! فإذا أسقطنا هذه المعلومات لكي نتفهم حقيقة توصيف عبارة "راس لحم" لتبين لنا أن المقصد يذهب إلى أن صاحبه إنسان يعمه الغباء والجمود والسكون والانغلاق وعاجزعن الفهم لأنه لا يستخدم عقله .

والخلاصة، في تقديري، أن المقصد من عبارة "راس اللحم" مسألة تتعلق بطريقة التفكير، فهو صاحب "العقل الوثوقى" المتحجر الذي لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف، إنه العقل الذي يثق في معرفته ثقة تمنعه من اكتشاف نواقص هذه المعرفة أو التغيرات التي تجري عليها وحولها مع مرور الزمن..عقل جامد مكتظ بمسلمات تتوالد باستمرار لتقفل كل منفذ للاجتهاد والتفكير، وكل الاجتهادات البشرية تتحول لديه إلى مسلمات، ونراه متوقفا عند لحظة زمنية محددة ومتشبثا بها ويعيش فكريا وروحيا فيها، مما يجعله فاقد القدرة لأجل معرفة وتفسير وتحليل ما يمر به من أحداث .

"راس اللحم" موجود في كل الثقافات والمجتمعات، الفرق أن هذا النوع من العقول تمت دراسته في بيئات ثقافية أخرى ففكر وابتكر وأبدع ، فيما لا يزال هذا النوع سائدا لدينا ونكتفي بوصفه بـ "راس لحم" دون أن ندرسه أو نساعده في الخروج من قوقعته.. لذا وجب الانتباه إلى أن الموصوف بأنه "رأس اللحم" مظلوم لأنه لم يجد "البيئة المحفزة" التي تساعده لكي تتحول حياته من سيطرة ركود وضمور العضلات إلى نشاط ورحابة المخ، حتى يتحول إلى عقل منفتح، بحيث يكون للإنسان أفكاره وآراؤه وسلوكه ونسقه القيمي، وبنفس الوقت لا يجد غضاضة أو نفورا من الأفكار المختلفة والآراء المغايرة .

أما تصنيف الآخر، وإصدار الأحكام، واحتكار الحق، واحتقار المخالف، والانغلاق على الأفكار الشخصية واعتبارها الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقاش أو المراجعة، فإن ذلك ليس إلا سمات عامة لا تمت بصلة "لسعة الأفق" والعقل المنفتح، بل هو نموذج مثالي لـ "راس اللحم".