Atwasat

(رفيق، أخو لفاروق)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 17 مايو 2021, 09:33 صباحا
محمد عقيلة العمامي

حطمت قذيفة مدخل فندق فينيسيا الزجاجي الجميل، اخترق الرصاص عددا من نوافد واجهته، اندفع مسلحون داخل الفندق. لقد اندلع الاقتتال بشوارع بيروت. وسط هذا الهرج والفوضى، علمنا بأن حربا أهليه اشتعلت. كنا ثلاثة رفاق لا علاقة لنا بالحرب ولا بأسبابها. لممنا على عجل حقائبنا وانطلق بنا التاكسي كقذيفة نحو المطار. كان ذلك في منتصف شهر أبريل من سنة 1975؛ وفي يوليو من العام نفسه، صحوت من غفوة عشية باريسية، اتصلت برفيق رحلتي، لكن الهاتف ظل صامتا. نقرت زر موظفة الاستعلامات، أخبرتها بأنني لم أتمكن من الاتصال بغرفة صديقي.

انفعلت، وانطلقت كلماتها كرصاص وكأنها تشتمني. رددت منفعلا: (Shut Up). أجابتني بالإنجليزية وبحنق: !You Shut.. واستطردت: ماذا يبقيك أنت في الغرفة، وفوقها نيران تلتهم الطابق العشرين؟ ما لم تغادر، في الحال، من سلم الطوارئ سيخرج بك رجال المطافئ، وخيل لي أنها قالت: كـ(قرد) مشوي!

أنا في الواقع لم أسمع باقي شتائمها، إذ التقطت جواز سفري، ومحفظة نقودي، ونقرت باب رفيقي ونزلنا معا عبر سلم الطوارئ، من الدور التاسع عشر بفندق الشيراتون. كان أول ما استنشقته من دخان الحريق أطبق على صدري وظللت كاتما أنفاسي حتى اقتربت من الدور الأرضي. فيما ظل صديقي عبدالله يسعل. حتى وصلنا بهو الفندق. كان بهو الفندق مزدحما، حتى إن بعضهن نزلن بلباس النوم، فخفف المشهد من هول الحريق، وصافرات الإطفاء والطوارئ!

كنا بالقرب من باب سلم الطوارئ، الذي انفتح على رجل قصير ممتلئ يشبه الملك فاروق يضحك ويشتم، في آن واحد، وهو مقبل، نحو رفاقه، الذين بادروه ضاحكين:
- (حمد لله عالسلامة) يا رفيق.

كذلك قال له أحد رفاقه الذين تعالت ضحكاتهم بمجرد أن رأوه ملتفا في منشف الحمام، ببطنه المتكورة أسفل صدره الممتلئ بشعره الأسود الكثيف. تفوه بكلمة قبيحة، ثم ألحقها ببقية لهجته اللبنانية (... أخت) هالنار! ورانا.. ورانا. سبنالها بيروت إجت ورانا لهون) كان يرفع يده اليمنى، كما لو أنه يتوعد أحدا ما، فيما ظلت الثانية ممسكة بعقدة منشف الحمام الأبيض التي كانت تحت بطنه تماما.

تلك الليلة تسيد الجلسة، ومنها أصبح رفيقا، الذي كثيرا ما أخاطبه باسم فاروق، حتى إنه قال لي ساخرا: يا عمي أنا رفيق أخو لفاروق، وهو الذي يشبه الملك فاروق، أما أنا أشبه فاروق أخويا، من شان هيك سموني (رفيق أخو لفاروق)!

كان رفيق - أخو لفاروق- شخصية ساحرة مثقفا جدا يتقن لغتين، وهو كاتب ساخر، لكنه يتعاطى التجارة! ولقد تواصلت علاقتنا، من بعد ليلة ذلك الحريق، وتوطدت من بعد أن التقيته مرات في الفندق الكبير في طرابلس، خصوصا أثناء استمرار الحرب اللبنانية التي هزت لبنان وما زالت تبعاتها وجروحها تؤذي نسيجا متنوعا ظل مثاليا حتى سنة 1975.

لبنان، نال استقلاله سنة 1946 من بعد سيطرة أجنبية عليه استمرت 2700 سنة، وخلفت خليطا عجيبا من ديانات وطوائف لها طقوس مختلفة لسبع عقائد دينية كبرى، ينتمى لكل منها حوالى عشرين ألف عضو، ناهيك عن مئة مذهب آخر يتفاوت عدد أعضائه ولكل منها محكمته وقوانين لزواجه وطلاقه، ومواريثه! وهناك طوائف تكره الخس والفجل، وأخرى تكره اللون الأزرق، وغيرها يرى أنه أفضل الألوان.

طوائف غريبة عجيبة منها من يرتل، حتى الآن، صلوات على أرواح الذين غرقوا في البحر من جنود فرعون! ومنها من يكسر الأواني الخزفية التي يأكل فيها المسيحيون والمسلمون. ومنذ مطلع القرن السابع عشر، لم تتوقف الإرساليات التبشيرية الدينية وكثر بها الأساقفة ورجال الدين لدرجة أنه يقال إن سقط حجر فوق تجمع لبنانيين في الغالب يصيب رجلا من رجال الدين! وما إن أسست أمريكا معهدا تعليميا في بيروت، حتى تطور ليصبح الجامعة الأمريكية، التي أصبح عدد ممن تخرجوا فيها رؤساء وزارات وشخصيات كبيرة في عدد من بلدان المنطقة، وتؤكد الإحصائيات الأمريكية أن أكثر العاملين بالأمم المتحدة التي تأسست سنة 1945 في سان فرانسيسكو لأي دولة منتسبة لها هم من خريجي هذه الجامعة.

ومن لبنان انطلق الفينيقيون وأصبحوا أشطر التجار وهم أول من استخدم خطوط الطول العرض، وأول من أدخل الكثير من الزراعات لعل العنب والزيتون من أشهرها، وهم قدموا للعالم الرقم 12 كوحدة للقياس وهم من منحوا أوروبا اسمها، وهم من ابتكروا أحرفا لغوية حلت محل اللغة الهيروغليفية، وهم أشهر تجار العالم، ورجال أعمالهم، ولعل آخرهم مبدع ساعات السواتش السويسرية، أصبحت عالمية، ومحلات زارا.

والإحصائيات التي لا تعد، تقول إن 80% من اللبنانيين متعلمون، وهم الذين جعلوا بيروت سويسرا الشرق الأوسط، وأفضل عاصمة السياحية في المنطقة، وتمتعت برخاء لا مثيل له في العصر الحديث، وأصبحت باريس الشرق الأوسط وعاصمته السياحية، حتى إنها أصبحت قبلة سياحية لأثرياء الخليج، ورجال أعمال المنطقة. ثم ضاع كل شيء بين ليلة وضحاها بسبب الفتن الدينية، وكلما جاهد المصلحون لتعود مثلما كانت تتفجر مصائب ويكتشف أن فتنا دينية، لم تكن معروفة ابتدعت، وكانت وراء خراب البلاد والعباد من دون سبب مقنع له.

خلال عطلة العيد هذه التقيت، بالصدفة، صديقي رفيق أخو لفاروق! وقضينا معا ثلاثة أيام رائعة في منتجع الشروق العربي بشرم الشيخ أو كما يحلو لمديريه أن ينطقوه باللغة الإنجليزية: Arabian Sunrise Resort. كان مبهورا به، مؤكدا لي أنه لم يعد يستمتع بإقامة كالتي يجدها في هذا المكان، والذي لم يغب عنه منذ عرفه من سنوات، وفسر لي ذلك ملخصا رأيه، أن نجاحه تأسس من خبرة إداراته التي انتبهت لما تريده السياحة العائلية العربية، التي شجعتها خبرة مصر، وقدرتها الخارقة في القضاء المبكر على بذور الفتن، خصوصا الدينية، فجعلتها منتجات شرم الشيخ قبلة للسياحة العالمية، وسريعا ما عرف خبراؤها تطويعها للسياحة العربية العائلية.

ركز فاروق بأسلوبه الساخر الساحر، على أن البشر يسعون على الدوام إلى الراحة، وليس ثمة راحة أكثر مما وعدنا الله بها في الجنة، سلام ونعيم واستقرار وهذا يتحقق عندما يمحو الله الغل والحسد وكل البشاعة التي لم يخلق الله بها أحباءه الأطفال، وإنما نحن الذين وضعناها في أناشيدهم الصباحية.

كل العالم، مثلما قال، انتبه لما يضعه القساوسة، والأئمة ورجال الديانات كافة في عقول الأطفال، وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى الهناء إلا من خلال أفكارهم التي ليست بالضرورة ما أمر بها أي دين إنما مثلما يرونها هم، أو مثلما يفسرونها بعقولهم التي لن تصل مطلقا إلى قدرة الرسل والأنبياء. مصر جعلت من أمر الله بالدخول إلى مصر آمنين شعارا لها، وذلك سيتحقق لأنه أمر من عند الله، وهو أقوى مما عند القساوسة والفقهاء. جميل أن ترى باتساع مصر المساجد والكنائس والمعابد تتعانق، تماما مثلما تتعانق أيام الأعياد في جميع الديانات.

ولعل معرفتنا أن المولد، في مصر، يعني عيدا (شعبيا) دينيا لأحد أولياء الله الصالحين، قد يكون هذا الولي فقيها مسلما أو قديسا مسيحيا. وإن ما تم حصره من موالد في مصر بلغ 2850 مولدا؛ ويحضر هذه المناسبات أكثر من نصف سكان مصر العظيمة، يعني حوالى 42 مليون نسمة، منهم المسلم، سنيا كان أم شيعيا، ومنهم المسيحيون بمختلف مذاهبهم. ذلك هو الشروق الأوسطي كله وليس العربي فقط، فمن لا يعرف أن الشمس تشرق للجميع، وأن الشروق العربي، هو الدعوة لشروق واعد للناس جميعا.

كان لقاءي برفيق أخو لفاروق، ممتعا حد البهجة. خصوصا وهو يقول: إن مصر تعمل جاهدة لأن تكون قبلة العالم للراحة والاصطياف.. وهي تعي جيدا أنها لن تكون كذلك إلا بالتصدي للإرهاب والفتن وكل المؤامرات لخلق مزيد من مصائب ربيع مرعبة، وهذا ما يؤهلها بالتأكيد لأن تكون منتجعا منتجا واعدا دائم الإشراق.