Atwasat

قضية الألوهية عند ميشيل فوكو

محمد خليفة الإثنين 25 يناير 2021, 01:01 مساء
محمد خليفة

في سنة 1976 ألقى ميشيل فوكو سلسلة من المحاضرات في الكوليج دو فرانس. وفي محاضرة 17 مارس من ذاك العام تحدث فوكو عن الذي يحيي ويميت. وإذا كان الذي يحيي ويميت أسمه عند المسلمين هو الله، فإن الذي يحيي ويميت أسمه في ثقافة فوكو الأوربية Le souverain. والسلطات/القدرات التي يمارسها هذا الذي يحيي ويميت تسمى Souveraineté .

المصطلح الأول يترجم عندنا إلى "صاحب السيادة" والمصطلح الثاني يترجم إلى "السيادة". وما دام صاحب السيادة يحيي ويميت فلابد من تسميته إلها، ولابد من تسمية سلطاته أو قدراته "الألوهية"!
والتعريف اللاتيني للسيادة ليس بعيدًا عن هذا الفهم، فالسيادة عند واضع نظريتها، جان بابتست بودان، هي "القوة المطلقة الأبدية"La puissance absolue et perpetual ، والترجمة العربية لفكرة "السيادة" ليست بعيدة عن هذا المعنى كذلك، فهي عند البعض "السلطة التي لا سلطة فوقها"!

وكيف تكون هناك قوة: 1) مطلقة و2) أبدية و3) لا سلطة فوقها، ثم تكون لغير الله (ملك أو شعب أو دولة)؟ وإذا كانت السيادة هي السلطة التي لا سلطة فوقها فأين يكون الله؛ فوقها أم بجانبها؟ إذا كان الله فوقها فهي ليست السلطة التي لا سلطة فوقها، وإذا قلنا إن الله بجانبها عندها نكون قد جعلنا مع الله إلها آخر، مثلما فعل أبو جهل وأبو لهب.

وفي النطاق القانوني-السياسي يُنظر إلى "السيادة" على أنها "مصدر المشروعية"، أو "القدرة على سن القانون ونقضه". وفي هذا السياق صك المودودي مصطلح "الحاكمية" لترجمة مصطلح "السيادة" sovereignty)) من الإنجليزية إلى العربية باستعمال مصطلح غير معهود. يقول المودودي: "الإسلام لا يعترف بسيادة/حاكمية سوى تلك التي لله ولذلك، لا يعترف بواهب للقانون غيره".

Islam admits of no sovereignty except that of God and, consequently, does not recognize any law-giver other than him.

غير أن شاغل فوكو، وهو محل اهتمام هذه المقالة، ليس المشروعية وإنما الحياة والموت ودور السلطة (Le pouvoir) فيهما. ومحل اهتمام فوكو هو الإله المتصرف في الموت والحياة في العصر الحديث والحداثة: (الدولة، وعلى رأسها الملك، أو بدونه)، وهو ما سأعود إليه بعد وقفة قرآنية لإنارة الموضوع من الجانب الإسلامي.

القرآن مليء بقصص الذين يزعمون القدرة على الإحياء والإماتة، أو الذين يزعمون أن القتل ممارسة لبعض حقوقهم السيادية، أو أن الحق في الحياة منة منهم. وهؤلاء لا يوجدون إلا عند الذين يقبلون أن يكون مع الله آلهة بشرية؛ من نوع فرعون، والنمرود، وأباطرة روما، وملوك فرنسا... إلخ!

وفي ضوء ما تقدم سأقوم الآن بسرد موجز لأفكار فوكو التي عالج فيها قضية الألوهية في تلك المحاضرة. وإذا كان القارئ من الملمين بقصص القرآن الكريم فسيتذكر المواقف المشابهة، وبما يفيد أن التاريخ يعيد نفسه من أيام الفراعنة إلى أيام لويس السادس عشر. وقرن لويس السادس عشر (القرن الثامن عشر) هو بداية مناقشة موضوع السيادة/الألوهية في محاضرة ميشيل فوكو.

أول ما يبدأ به فوكو هو التأكيد على أن الحق في الحياة والموت من مشمولات "السيادة". وفي هذا الصدد يقول: "في النظرية الكلاسيكية للسيادة؛ تعلمون أن الحق في الحياة والموت من مشمولاتها الأساسية"!
Dans la theorie classique de la souverainte, vous savey que le droit de vie et de mort etait un de ses attributs fondamentaux.
ويتساءل فوكو عن معنى ملكية الحق في الموت والحياة ثم يجيب: "بمعنى من المعاني، القول بأن صاحب السيادة يملك حق الموت والحياة معناه أنه يستطيع قتل الناس أو تركهم ليعيشوا".
En un sense, dire que le Souverain a droit de vie et de mort signifie… qu'il peut faire mourir ou laisser vivre.

وكانت ممارسات فرعون مع بني إسرائيل على ذاك النحو، فهو القائل: "سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون"! وإنا فوقهم قاهرون معناها نحن أصحاب السيادة، نحن أصحاب القوة المطلقة أو السلطة المطلقة في مصر. وبهذه الصفة (الألوهية) نقتل من نقتل ليهلك ونترك من نترك ليعيش! وقد جاء موقف فرعون هذا ردًا على تساؤل الحاشية المتملقة: "وقال الملأُ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون"!
ومن هنا تقرر لدى فوكو أن "سلطة صاحب السيادة (الإله) على الحياة لا تتقرر إلا من اللحظة التي يستطيع فيها القتل".

L'effet du pouvoir souvrain sur la vie ne s'exerce qu'aprtir du moment ou le souverain peut tuer.
وعندما يصل فوكو إلى القرن التاسع عشر يقرر أن دور صاحب السيادة (الإله) قد انقلب مئة وثمانين درجة ليصبح له "الحق في أن يحيي الناس أو يتركها تموت"!

"Le droit de faire vivre ou de laisser morir"
والسر فيما سلف هو تحول الألوهية من الملك/الفرعون إلى الدولة التي يسميها نيتشه "الصنم الجديد"! وللسخرية من عبدة هذا الصنم يقول نيتشه (في كتابه هكذا تحدث زرادشت): "سيعطيكم كل شيء.. إذا عبدتموه.. الصنم الجديد"! اذكروا الدولة-الإله، عظموا الصنم الجديد، واطلبوا ما شئتم، فما تطلبونه للعيش والرفاهية سيوفره لكم هذا الصنم في مقابل العبادة التي تتوجهون بها إليه!

وكما تكون عبادة الصنم بالمداومة على ذكره أولاً، تكون كذلك بجعله مصدرًا للمشروعية ثانيًا، وبسفك دماء من يهدد أمنه ثالثًا! فمن يهدد أمن الصنم يقدم لمحكمة أمن الصنم/الدولة لتحكم عليه بالإعدام. والحكم بالإعدام نوع من تقديم القرابين للدولة. وهذه العبادة مورست قديمًا باسم الآلهة، وتمارس حاليًا باسم الصنم الجديد (الدولة).

ولازال في محاضرة فوكو ما يسترعي الانتباه، ولاسيما حديثه عن الموت كلحظة انتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة، وكل دار ولها إله. "كان الموت، يقول فوكو، يمثل الانتقال من سلطة إله الدنيا، إلى سلطة إله الآخرة".
La mort, c'etait le moment ou l'on passait d'un pouvoir, qui etait celui de souverain d'ici bas, a cet autre pouvoir, qui etait celui du souverain de l'au-dela.

فوكو وثقافته من عالم تعدد الآلهة ولذا يرى في الموت الانتقال من أحكام إله يحكم بالقانون الخاص والعام، إلى إله ليس في حكمه غير النعيم المقيم أو الجحيم الأبدي. وللأسف عندما يذهب أبناء المسلمين للدراسة في فرنسا لا تسترعي انتباههم هذه النفايات ولا يتوقفون عند خطورتها السامة، بل يعودون بها إلينا ليسمموا أجواء الفراغ الفكري الذي نعيشه، ويحكموا على الأحرار بالإعدام بمفاعيل هذه النفايات السامةــــ ومع ذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعًا!
الخاتمة: "أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون".