Atwasat

«ردنغ» في الأخبار.. يا سبحان الله!

جمعة بوكليب الخميس 25 يونيو 2020, 12:56 مساء
جمعة بوكليب

حين سمعتُ باسمها، مساء السبت الماضي، يتردد في نشرات الأخبار، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، صدّقتُ بأن الدنيا، أحياناً، يخطر لها أن تمشي على رأسها  استغراباً وتعجباً. وآمنت بأن لله في خلقه شؤوناً. ولم أكن وحدي في ذلك، كان المراسلون التابعون لمختلف القنوات التلفزية، وهم ينقلون تفاصيل الحدث، يبدون تعجبهم واستغرابهم لوقوعه في مدينة التحفت بالنسيان، ولا تلفت انتباهاً، أو تثير اهتماماً حتى على خريطة.

ردنغ – Reading مدينة، تقع غرب لندن. ولو كنتَ مستقلاً قطاراً، وفي طريقكَ إلى مدينة بريستول، فلا بد أن تلفت انتباهك لدى توقف القطار في محطتها. رصيف المحطة لا يختلف عن غيره من الأرصفة التي تشاهدها في محطات القطارات، لكنكَ لو لم تكن سمعت بالمدينة قبلاً لكنتَ وقعتَ في خطأ شائع، وقرأت اسمها ريدينغ «Reading»، وليس كما ينطقه أهلها مخطوفاً وسريعاً ردنغ «Reding». هذه، كما يقولون، من أخطاء البدايات، أوكما نقول نحن في ليبيا: «اللي ما يعرفك يجهلك».

ولو كنتَ قاصدها، وليس مجرد مسافر في قطار عابر بمحطتها، وغادرتَ القطار في طريقك إلى المدينة، لكنتَ تفاجأتَ بجمال تصميم وروعة المحطة من الداخل. وحتى هنا سوف تقع في خطأ شائع آخر، لأن كبر مساحة المحطة، وحداثتها ونظافتها وجمال تصميمها، يجعلك خطأ تظن بأنكَ تزور مدينة عظيمة. لكن بعد مغادرتك المحطة، والطواف في أحيائها وشوارعها، تكتشف أنك، مثل غيركَ من الغرباء، وقعتَ في فخّ المحطة. ويتضح لك أن مبنى محطة القطارات هو الشيء الوحيد الذي سوف يجعلك تتذكر المدينة، حين تغادرها، ولا شيء غيره.

قضيتُ في جامعتها ثلاثة أعوام طالباً، وحين غادرتها لم أنتظر من أحد أن يلقي خلفي بسبع حصوات حتى لا أعود، بل عكست الأمر، بأن ألقيتُ، عمداً وتحدّياً، الحصوات السبع في وجهها، وأغلقت ورائي كل الأبواب بأقفال، وألقيت بمفاتيحها في مياه نهرها، ومحوت من ذاكرتي علامات كل الطرق التي من الممكن أن تعيدني إلى مدينة وقعتْ، منذ نشأتها، في جُبّ النسيان، وانتظرتْ آلاف السنين مرور قافلة عابرة، لتتوقف عند البئر وتنتشلها. ولم تكن تعرف هي أو غيرها، أن تلك القافلة، حين يحين وقتها، سوف تأتي من جهة في العالم تسمّى ليبيا، مصيرها، منذ استقلالها وحتى وقتنا هذا، ما زال معلقاً بكف عفريت. وأن القافلة المرسلة منها محمّلة بكارثة، تمشي على قدمين اثنتين، وباسم خيري سعد الله، وأن القتل والدم والحزن والثكل هم الخير والسعد اللذان حملهما إليها: لماذا؟

هل هي الصدفُ العجيبة والنادرة التي تحدث، مثل خوارق الطبيعة، وتجمع في كارثة واحدة ليبيا وردنغ - بلاد ومدينة ارتبطتُ شخصياً بهما؟

 ردنغ مدينة عشت بها منسيّاً، في أحراش نسيانها، ثلاثة أعوام. وليبيا بلاد ولدتُ وعشتُ بها، وخاصمتني وخاصمتها، ودفعتني قسراً للغربة، وقبول العيش في مدينة لا تزيد على أن تكون نقطة توتر وقلق، في منتصف المسافة بين مدينتين مبهجتين: لندن وبريستول.

«لا تسألوا الناس اسألوا الظروف» هذا ما كتبه الروائي المصري المرحوم إحسان عبدالقدوس على غلاف روايته «بئر الحرمان»، التي حوّلت إلى شريط سينمائي، قامت ببطولته سندريلا الشاشة العربية المرحومة سعاد حسني. وهذا بدوره يقودنا إلى الجريمة التي حدثت، أخيراً، في مدينة ردنغ، ومزجت اسمها بالقتل والدم والحزن. الشباب الذين قتلوا غدراً مساء السبت الماضي، ومن دون جريرة، ضحايا. والقاتل الشاب الذي هرب من أهوال الحرب في بلاده، وجاء طالباً للجوء والعيش بسلام، وممارسة حقه في الحياة هو كذلك ضحية.

أنا لا أبحث عن مشجب، أو مشاجب لألقي عليها باللوم وراء ما حدث، ولا لتبرئة قاتل. لكن ما ذنب شاب صغير السن، لكي يجبر على حرمانه من العيش، عزيزاً كريماً، في بلاده، ويحرم من حق الحياة فيها، ويضطر إلى الفرار، لاجئاً إلى بلد آخر وثقافة أخرى، ويصلها محطماً نفسيّاً من هول ما رأى وسمع وشاهد؟ وكيف له، وهو الغرُّ الساذج، من إعادة التوازن النفسي إلى روحه، في بلد لا مكان فيه للأواصر والصلات الأسرية والاجتماعية، وبعيداً عن أهله وأقاربه وأصدقائه وأحبته ولسانه وثقافته؟

القتلُ، ليس دفاعاً عن نفس أو شرف، جريمة حرّمتها وتعاقب عليها الشرائع السماوية قبل القوانين الأرضية. وما حدث في تلك المدينة المسماة ردنغ، ليس سهلاً تجاهله، وكنسه تحت السجاد، لأنه يثير في أذهاننا وقلوبنا الكثير من الأسئلة، ويضعنا، وجهاً لوجه، أمام حقيقة ما يحدث في بلادنا، وما له من آثار على نفوس أجيالنا الصغيرة حاضراً ومستقبلاً. وخيري سعد الله سوف يقضي بقية عمره، الذي هرب به من ليبيا، في زنزانة بمصحة نفسية، أو في سجن. لكن الأسئلة التي حركها في بحيرات نفوسنا وواقعنا الليبي أجدر ألا تقابل بالتجاهل والصمت، أو بالاستنكار والإدانة.

أفيقوا يرحمكم الله!