Atwasat

تونس بين مدرج الجامعة والزنزانة

سالم العوكلي الثلاثاء 15 أكتوبر 2019, 12:19 مساء
سالم العوكلي

تونس بين مدرج الجامعة والزنزانة
سالم العوكلي
بعد تقدم 36 مرشحا تمخضت الانتخابات الرئاسية التونسية عن مرشّحَيْن للجولة النهائية لانتخاب الرئيس السابع لجمهورية تونس، والثاني المنتخب ديمقراطيا بطريقة مباشرة.
المرشحان اللذان تجاوزا التصفيات التمهيدية، وسيخوضان المباراة النهائية، خرجا من مكان غير منظور وغير متوقع للمراقبين الذين يرصدون ما يحدث في أوساط النخبة السياسية ويجهلون ما يحدث في القاعدة الاجتماعية، وهذا الجهل بما يتغير في المجتمعات، وغياب مراكز البحوث الاجتماعية، هو ما جعل الثورة التونسية والربيع العربي مفاجأة للعالم القريب والبعيد لدرجة ارتباك ردات فعل ساسة العالم تجاهها.
الحاصل أن القلة التي شاركت في الانتخابات أعطت مؤشرا بانقسام الشارع التونسي تجاه مشروعين مختلفين تماما من جهة، ومن جهة أخرى أعطت مؤشرا على كفر شريحة اجتماعية باللعبة السياسية من أصلها، وكفر الشارع بالنخبة التي تكررت في المرحلة السابقة وبالأحزاب التقليدية، متناغمة مع متغيرات العالم الذي أصبح حتى في أعتى الدول الديمقراطية ينظم احتجاجاته بعيدا عن تأثير المنظمات والنقابات والأحزاب، ما يشي بأن ثورة المعلومات ومواقع التواصل أنتجت فيما أنتجت الفرد أو الشخصية المستقلة التي من الممكن أن تنخرط مع جموع تشبهها في فردانيتها واستقلاليتها، وما يجمعها عادة ــ رغم اختلاف طبقاتها ورؤاها ومشاربها ــ الإحساس المشترك بتوحش السلطة التقليدية (ديمقراطية كانت أم ليست).
هذا ما عبر عنه الشارع التونسي ، الذي انحاز إلى مرشحين مختلفين في كل شيء. أحدهما جاء من مدرج الجامعة والثاني من السجن، أحدهما محافظ والثاني ليبرالي، أحدهما أكاديمي بارز والثاني رجل أعمال، أحدهما مختص في القانون عموما والقانون الدستوري خصوصا، والثاني في الإعلام، أحدهما يده نظيفة إلا من الطباشير مع أنه لم يمتحن حتى الآن بمنصب، والثاني متهم بشبهات فساد أو عدم نزاهة، أحدهما كان يخرج على الشاشة منظرا في الدستور والقوانين والحقوق، والثاني كان يخرج على الشاشة وهو يوزع المساعدات للفقراء في هامش الهامش التونسي. كان بن اسعيد يتحدث بلغة عربية فصيحة عن مبادئ عامة والقروي يتحدث بلهجة تونسية متلعثمة عن جزئيات خاصة.
انقسم الشارع التونسي، أو قلة منه شاركت في الانتخابات، بين النزيه المتحدث اللبق عن طموحاته في صياغة بنية تحتية تشريعية لتونس تضمن حقوق الجميع وتكافل الفرص، وبين متهم بتهرب من الضرائب وغسيل أموال يتحدث عن الفقر والبطالة وعن إعادة هيكلة الاقتصاد التونسي بعقلية رجل أعمال ناجح.
كان الناخب التونسي منقسما بين النزيه النظري، والمتهم باللانزاهة العملي، بين الذي خرج من معطف بورقيبة القانوني الذي ابتعد عنه بشخصيته المحافظة ذات الهوى الإسلامي، وبين الذي خرج من معطف بورقيبة الليبرالي الذي تعتبره أوساط الشباب أحفورة باقية من متحف النظام البوليسي العتيد.
قامت الميديا والمراسم التونسية باستعراضات جديدة على المنطقة لمشاهد نجاحها الديمقراطي، ومن ضمنها المناظرات التلفزيونية بين المرشحين في مشاهد لم نرها إلا في حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث النموذج الأمريكي الشهير والذي عادة يتابعه العالم برمته أصبح أثيرا لدى التجربة التونسية، وحتى خروج رغبة الناخبين عن الطبقة السياسية التقليدية وانتخابها حتى الآن لمستقل ولرجل أعمال من خارج النخبة السياسية المعروفة يشبه انتخاب ترامب الذي جاء من حيث لا يتوقع أحد، وفنّد كل توقعات مؤسسات استطلاع الرأي العريقة في الولايات المتحدة.
لكن الفارق أن تونس نظامها نيابي، وصلاحيات الرئيس التي تثار حوله كل هذه الضجة محدودة جدا، ولا تتعلق بشؤون المواطنين وهمومهم اليومية التي يتحدثون عنها في وعودهم وهي ضمن صلاحيات البرلمان والحكومة، ولعل شكوى الرئيس السابق السبسي من هذا الواقع كانت واضحة وأدلى بها كثيرا في أواخر حياته. لذلك كان تركيز حزب النهضة ــ الذي مازال يتمتع بشعبية في تونس التي تتصارع فيها التناقضات ــ على الانتخابات التشريعية التي حقق فيها المركز الأول والتي تخوله عبر التحالف مع بعض الأحزاب الأخرى لأن تشكل حكومة شبيهة بالحكومة في المغرب، ورغم رسالة الامتعاض والرفض التي وجهها الناخب التونسي للأحزاب إلا أن الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية هي التي ستشكل الحكومة وتتحكم في مصير هذا الناخب وأحلامه، وستكون وعود الرئيس في ترسيخ دولة القانون ومحاربة الفساد رهناً بعلاقته معها، فحزب النهضة (الإسلاموي) الفائز بالانتخابات النيابة متحمس لفوز بن اسعيد (القادم من الجامعة) الذي يعتبره الغنوشي (القادم من الجامع) قريبا منه ويعتبر منافسه القروي وحزبه خطاً أحمر.
أخيرا فإن المؤشر الأهم هو عزوف أغلبية كبيرة من الناخبين على المشاركة رغم أن التجربة التونسية تعتبر الأفضل والأكثر نجاحا على مستوى دول الربيع العربي، بل إنها تعتبر رائدة على مستوى تاريخ الدول العربية، و أتوقع أن يكون الإقبال أفضل في الجولة الثانية، فالجمهور التونسي العاشق لكرة القدم لم يولِ أهمية للتصفيات التمهيدية لكنه سيشارك بحماس في المباراة النهائية بين المرشحين.

اتمنى للتجربة الديمقراطية في تونس (باكورة الربيع العربي) أن تستمر وان تنجح وأن تنطلق من حقيقة أن النجاح الاقتصادي دائما هو محك نجاح أي تجربة ديمقراطية في العالم، فمع فشل الاقتصاد وانتشار الفساد واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء لا يمكن لأي ديمقراطية أن تستمر، وأن الرفع من مستوى المعيشة وتحقيق معدلات نمو هامة يستفيد منها الشعب يحتاج إلى خطط مدروسة وليس إلى توزيع صدقات على الفقراء والعاطلين كما فعل ويفعل القروي، ولا إلى مجرد حقوق دستورية وتشريعات على الورق كما يروّج بن اسعيد لحملته.

كٌتبت السطور السابقة بعد خروج القروي من السجن وأثناء الصمت الانتخابي.

أما وقد فاز أخيرا المرشح قيس بن اسعيد، وبفارق كبير، مع زياد الحماس الشبابي للمشاركة في الساعات الأخيرة من الوقت المخصص للاقتراع، فيعني أن الشارع التونسي وطبقة الشباب خصوصا قد ذهب وراء مرشح المبادئ العامة الذي لم يقدم برنامجا ملموسا والذي لا يتمتع كمستقل بكتلة برلمانية تدعمه ما سيضعه تحت ضغوط الأحزاب ذات الكتل المهمة داخل البرلمان، بينما علاقة الحكومة القادمة بالرئيس ستكون محك الإنجاز الممكن في تونس التي مازالت تعاني من أزمة اقتصادية ونسب عالية من البطالة بين الشباب، في نظام مختلط أربك الفترة الماضية، وهو النظام الذي طالما انتقده قيس بن اسعيد باعتباره مربكا للديمقراطيات الناشئة ومعرقلا لسلاسة تنفيذ الوعود والبرامج المقترحة، فهل سينجح بن اسعيد عبر المستقلين داخل السلطة التشريعية، أو عبر تحالفه مع بعض الأحزاب المحافظة داخل البرلمان، في إعادة هيكلة البنية القانونية والتشريعية التي تقوم عليها تونس الجديدة فيما يخدم مبادئه المعلنة ويخدم تناغم عمل السلطات المختلفة دون تضارب اختصاصات؟. الأيام القادمة ستجيب، وتبقى التجربة التونسية كما بدأت هي الملهمة للمنطقة، وهي التي تؤكد أن وعود الربيع العربي قادمة وستجتاح المنطقة، ولا فارق سوى في التوقيت الذي تحكمه ظروف كل شعب، فشرار نار البوعزيزي مازال يتنقل من مكان لمكان، وعلى كل النظم التي تعتقد أنها نجت من هذا التغيير التاريخي؛ أو تحايلت عليه وانتكست، أن تنتظر ضوء هذه النار، لأن المستقبل للشبان الذين انتخبوا دولة القانون وانحازوا لمدرج الجامعة ولمرشح من خارج الطبقة السياسية التقليدية التي مازالت لم تفهم معنى الكرامة الفردية الذي أيقظه البوعزيزي في وجه الكرامة المائعة التي طالما تغنت بها النظم الفاشية وهي تدوس مواطنيها كل يوم.