Atwasat

الليبيون.. كيف وصلوا الى استقلالهم؟

سالم الكبتي الأربعاء 19 ديسمبر 2018, 11:00 صباحا
سالم الكبتي

لم يكن ذلك سهلا. لقد بدأ ذلك بالنضال منذ وطأت أقدام الغزو الإيطالى ليبيا عام 1911. صنع الليبيون استقلالهم منذ البداية. مقاومة وانتصارات وانكسارات ومنافٍ وسجون ومعتقلات رهيبة وسط الخلاء الموحش. تضحيات ونضال استمر ولم يتوقف. مشانق وإعدامات بالجملة. تجريد للحقوق والممتلكات. إذلال ومهانة للكرامة الإنسانية.

لم يكن استقلالهم الذي وصلوا إليه صباح الاثنين الموافق للرابع والعشرين من ديسمبر 1951 هبة أو هدية من أحد. صحيح أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولى برمته أسهما فى المساعدة على تحقيق ذلك عندما تيقنا أن (ليبيا ليست مسألة محلية بسيطة، وإنما هي مسألة دولية خطيرة) يتنازعها الشرق والغرب، وأنها تستحق الإجماع على نيل الاستقلال لأن الشعب الليبي جدير بذلك على وجه الحق وأن وراءه أعوام من النضال فى سبيل الحرية.

لم يكن الطريق إلى الاستقلال أمام الليبيين ميسرا بالقدر الذي قد يتصوره البعض من الأجيال اللاحقة التي انقطعت عن تاريخها الحقيقي. لقد كان معبدا بالتضحيات والدماء عبر كل الأرض الليبية. كان الغزو يستهدف الوجود الوطني والإنسان الليبي وأعمل جهده الفاشي لمحو الليبيين من الوجود استيطانا وفكرا ومعمرين طليان يحلون محلهم ويرمونهم خارج الحياة أو يجعلونهم على أسوأ الفروض مجرد اتباع دائمين لدولة إيطاليا ومسلمين إيطاليين يدينون بالولاء لها وتكون قبلتهم روما.

كانت المقاومة الوطنية منذ ذلك الغزو على أشدها وعاند الليبيون عدوهم ببسالة وخاضوا فى وجهه الكريه نضالا مريرا في تلك الأيام على جبهات في الجنوب وفي الغرب ووسط البلاد وفي الشرق. واجهوا إيطاليا وفرنسا وبريطانيا. وإذا كان الكثيرون لايعرفون عنا شيئا.. عن معاناتنا وتاريخنا فينبغى أن نقدمه إليهم كما حدث بمنتهى الاعتزاز ونبدأ قبل الآخرين بأجيالنا التى أصيبت بعلة التجاهل وعدم التواصل ومعرفة معنى الاستقلال والطريق الطويل والشاق الذي أدى إليه بعد نجاح الجهود الوطنية المتواصلة من الآباء وخروجهم من دهاليز المؤامرة ومحاولات الوصاية والتقسيم. لقد نهضت ليبيا بفضل تلك الجهود سليمة معافاة رغم الرضوض والجروح.

واصل الليبيون مقاومتهم فى المهجر بتوحيد المواقف والتنسيق وإصدار النشرات وتأسيس الجمعيات وعقد الاجتماعات واللقاءات نحو طريق الاستقلال. كان الوطن في تفكيرهم وعقولهم ويؤازرون الداخل بلا توقف وحين اشتعلت الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر 1939 بادروا بالاستجابة لدعوة الأمير إدريس السنوسي للاجتماع في منزله بالاسكندرية في أكتوبر من ذلك العام واتخذوا قراراتهم التي جددوا من خلالها ثقتهم به وتشاوروا في حالتهم المقبلة واتفقوا على تنسيق الخطوات لتحقيق الاستقلال.

وبدأت الخطوات الأولى في الطريق بمنتهى الثقة والشجاعة أيضا. كان ثمة تواصل بين هذه الجهود الوطنية في ظروف الحرب بين الليبين في مصر والشام ومسقط والأردن وتشاد. خط واحد ولوحة متكاملة ترسم الطريق صوب الاستقلال وتغض الطرف عن الحساسيات والصراعات الجانبية والمصالح الشخصية التافهة وظل الوطن يعيش في وجدان الرجال. ارتفعوا كثيرا عن مستوى الضغائن والتحاقد الذي لايبني وطنا تحرسه الحرية والأمان. ظل الوطن في المهجر وفي الداخل هو القضية الكبرى وهو حجر الأساس لبناء مستقبل جميل ونظيف لكل الأجيال القادمة. لم يكن في تلك الأيام المليئة بالنضال والدموع ثمة مجال للتفرقة أو الأهواء الضيقة. اختفت هنا تماما مظاهر التعصب المقيت للجهوية والقبيلة والعائلة وإن كانت هذه المظاهر موضوعا مهما في بعض المرات للتلاقي والعمل لكن فيهذه الحالة صار الوطن هو القبيلة وهو الجهة والعائلة أيضا فتوحدت الجهود والأفكار المخلصة وإن حدث بعض الاختلاف في وجهات النظر للسير في الطريق نحو الاستقلال وهكذا شاءت الظروف والصدف التاريخية أن تجمع الليبين لإنقاذ الوطن لا أن تفرق بينهم وأن تلم أطرافهم لا أن تباعد بينها.

ومضت الجهود في الداخل والخارج تلاحق الليل بالنهار وفى 9 أغسطس 1940 تكونت كتائب الجيش السنوسي النواة الأولى للجيش الليبي في الكيلو تسعه بالطريق الصحراوي غرب القاهرة وضم هذا الجيش كل الرجال والشباب الليبيين من كافة المناطق والقبائل بعد توقيع الميثاق الذي صدر في نفس اليوم وعزز من اتفاق اجتماع فيكتوريا بالاسكندرية وشارك الجيش مع قوات الحلفاء وكان الأمر بمقياس تلك الظروف ضرورة للعمل بهذه الكيفية.. شارك في عمليات التحرير داخل الوطن.

توقفت الحرب العالمية عندنا عام 1943 بينما استمرت في مناطق العالم الأخرى إلى غاية 1945 وتولت إدارة البلاد الإدارتان البريطانية في برقة وطرابلس والفرنسية في فزان وبدأ الحراك الوطني والشعبي في الداخل.. الجمعيات والصحف. التشاور والبحث في مصير الوطن ومستقبله. كثرت الاجتهادات والآراء وتباينت وجهات النظر ونقاط الرؤية والاختلاف من زوايا متعددة وكان الهدف في المجمل رغم كل شيء تحرير البلاد واستقلالها.

ثم لاحت بدايات بروز القضية الليبية على المستوى الدولى. اجتمعت الدول الكبرى الأربع بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة عام 1945 أثر انتصارها في الحرب على ألمانيا هتلر ولم تتفق فيما بينها لتقرير مصير المستعمرات الإيطالية السابقة في أفريقيا وعندما عقدت معاهدة الصلح مع إيطاليا عام 1947 قررت هذه الدول نقل مسألة الاختلاف المتمثلة في المستعمرات الإيطالية ومن بينها ليبيا إلى الأمم المتحدة في 15 سبتمبر 1948 واتفقت (على قبول توصيات جمعيتها العمومية بشأن التصرف في أمر هذه المستعمرات السابقة مع اشتراط وجوب مراعاة رغبات السكان ومصالحهم).

لاحقا قررت هذه الدول الأربع إرسال لجنة تحقيق تتألف من ممثل عن كل منها للتعرف على تلك الرغبات مباشرة وإعداد التقارير والمذكرات عن الواقع الليبى في الأقاليم الثلاثة وتشكلت هذه اللجنة بالفعل في العشرين من أكتوبر 1947 فيما باشرت أعمالها في شهر نوفمبر واستمرت سبعة أشهر في الصومال وأرتريا إلى مارس 1948. وصلت اللجنة إلى ليبيا في السادس من مارس وغادرتها في العشرين من مايو وقضت أربعين يوما في طرابلس وعشرة أيام في فزان وخمسة وعشرين يوما في برقة فيما توقفت خلال عودتها في روما واستمعت إلى آراء فئة من الموظفين الإيطاليين السابقين في ليبيا أيام احتلالها. التقت اللجنة كل الأطراف الليبية. الأعيان والشيوخ والأحزاب والجماعات والنوادي وأغلب الآراء كانت تتجه إلى الاستقلال ولاشيء غيره ولم تطالب بسواه. واتضح ذلك في حقيقة الأمر للجنة التي أدركت أن هناك إجماعا حقيقيا وملحا بين الليبيين يتوخى التحرر من أي حكم أجنبى. ورغم ذلك لم تراع اللجنة هذه الأمانى الوطنية وضربت عنها صفحا بحجة فقر البلاد وندرة مواردها الاقتصادية والمالية وأكدت في مجمل تقاريرها بأن ليبيا (لاتستطيع القيام بأمر نفسها وأنها ستحتاج للعون الأجنبى لسنوات كثيرة في المستقبل ولذلك فهي لن تكون مهيأة للاستقلال).

كان التقرير الرباعي محبطا لليبيين وأوقعهم في خيبة أمل شديدة وهم الذين قابلوا اللجنة وحاوروها في المدن والأرياف والأحياء والأسواق والمساجد وكافة الأماكن وشعروا بأن هناك مايدبر في الخفاء وانحيازا يميل إلى أن تحتفظ فرنسا بفزان ويؤيد الوصاية الإيطالية على طرابلس وبقاء بريطانيا في برقة غير أن النضال استمر ولم يتوقف أيضا رغم طول الطريق وكثرة الفخاخ في سبتمبر 1948 تواصل الجدل والنقاش حول ليبيا داخل أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة في ليكسس ولم يبلغ أية نتيجة ينتظرها الليبييون بفارغ الصبر. وأجل إلى شهر أبريل 1949 وبعد أن راجعت طلبات المنظمات الوطنية منحت لإيطاليا إرسال ممثل في المباحثات الجارية وكذا للمؤتمر الوطنى البرقاوي وهيئة تحرير ليبيا والجمعية الوطنية للاجئين وجمعية قدامى المحاربين الليبيين والطائفة اليهودية وأدلى كل هؤلاء الممثلين بشهاداتهم أمام اللجنة الأولى التي عينتها الأمم المتحدة ثم قدموا وفقا للمصادر التاريخية بياناتهم المكتوبة واشترط الليبييون الوحدة والاستقلال وإن اختلفوا بعض الشيء حول شكل الوحدة المنتظرة.

وهنا برز فخ آخر في الطريق. مشروع بيفن - سفورزا. كانا وزيرا خارجيتى بريطانيا وإيطاليا، تقدما به بعد قطع الطريق أمام تقرير اللجنة الرباعية ورفضه من قبل الليبيين. وتلخص الفخ الجديد الذي وصف بأنه حل وسط للشأن الليبي في أن ترضى بريطانيا بالوصاية على برقه وإيطاليا على طرابلس وفرنسا على فزان وأن ليبيا سيعاد إنشاؤها دولة مستقلة بعد عشر سنوات في 1959 وتقرر أن تبدأ الوصاية الإيطالية على طرابلس مع مطلع 1951 عند إنهاء الإدارة العسكرية البريطانية المتواجدة به.

عرض المشروع على الأمم المتحدة في مايو 1949 و(لقي حتفه) برفض جموع الشعب الليبي له إضافة إلى رفض الدول العربية والآسيوية ودول الكتلة الشرقية داخل الأمم المتحدة. لقد وصل استنكار وسخط الليبيين وغضبهم إلى تلك المنظمة عاليا وعند التصويت عليه أخفق في النجاح وقد رجح الكفة لصالح الليبيين إميل سان لو مندوب هاييتى بصوته وبذلك رفضت الوصاية بكل أشكالها على ليبيا وأضحى الاتفاق على استقلالها امرا مسلما به وفقا لآراء وكتابات كل المؤرخين المنصفين.

وفي الحادي عشر من أكتوبر 1949 شكلت الأمم المتحدة لجنة فرعية من سبعة عشر عضوا يمثلون مجموعة من الدول الأعضاء للنظر والبحث في مقترحات مختلفة تراوحت بين (الاستقلال فورا والاستقلال عندما يصبح ذلك عمليا والاستقلال فى نهاية ثلاث سنوات) وتواصلت اجتماعات هذه اللجنة حتى الأول من نوفمبر وبعد المداولات أعدت مشروع قرارها رقم 289 القاضي باستقلال ليبيا كاملا غير منقوص ووافقت الجمعية العامة على ذلك بواقع تسعة وأربعين صوتا مؤيدا ومعارضة صوت واحد وامتناع ثمانية عن التصويت وعلى هذا صدر القرار التاريخي في الحادي والعشرين من نوفمبر وكان من الخطوات المتوهجة التي أنارت المزيد على معالم الطريق ولم يكن الليبيون بعيدين عما حدث فقد مثلتهم وفود من المؤتمر الوطني البرقاوي وهيئة تحرير ليبيا والمؤتمر الوطني العام في طرابلس والجامعة العربية وحزب الاستقلال وتوحدت أغلب الاتجاهات هنا إصرارا على الاستقلال ومواجهة كل الفخاخ المحلية والدولية.

ترتب عن هذا القرار الدولي التاريخي تعيين المستر أدريان بلت ممثلا مقيما للأمم المتحدة في ليبيا وتشكيل مجلس لها يضم ممثلين عن مجموعة من الدول الأعضاء وأقاليم ليبيا الثلاثة ومندوب عن الأقليات في ليبيا. وكان القرار قد نص على أن تنتهي الإجراءات بمنح ليبيا الاستقلال في موعد أقصاه يناير 1952. تلاحقت الجهود بلا انقطاع ووجد المندوب الدولي الأجواء مواتيهة للعمل مع كل الأطراف الوطنية وتشكلت لجنة الواحد والعشرين بواقع سبعة أعضاء عن كل إقليم وكانت حجر الأساس الأول في بناء التطور الدستوري الليبي ثم الجمعية الوطنية الليبية التي ضمت ستين عضوا بواقع عشرين عضوا عن كل إقليم. أقرت شكل العلم الوطني وبايعت الأمير إدريس السنوسي ملكا على البلاد وأصدرت الدستور ونسقت العمل مع الحكومة الوطنية المؤقتة ووضعت قانون الانتخابات التي ستجرى بعد إعلان الاستقلال وتابعت استلام انتقال السلطات من الإدارتين البريطانية والفرنسية إلى الحكومة الليبية. جهود مخلصة اختصرت الزمن في المدة المحددة.

لم يكن الطريق إلى الاستقلال سهلا أو ميسرا. كان طويلا وشاقا ومرهقا تتخلله الصخور والمتاعب لكن الأقدام الثابتة اجتازته بكثير من الصبر والأحلام وحبات العرق. كان الوطن وكان الرجال وكانت المسؤولية في المستوى المطلوب. لم يكن ثمة نشاز رغم كل مايقال. وصل الليبيون بأحلامهم ودموعهم وأمنياتهم وتطلعهم إلى المستقبل البعيد من وسط الرماد وتعب الطريق إلى الساعة العاشرة صباحا من يوم الاثنين الرابع والعشرين من ديسمبر 1951. أطل الملك إدريس السنوسي من شرفة قصر المنار في بنغازي ومعه الرجال المخلصون الذين أسهموا في صنع هذا الحلم وأعلن استقلال ليبيا دولة حرة مستقلة ذات سيادة مشيرا إلى كفاح الأجداد وتراثهم المجيد وضرورة المحافظة عليه وأن من أعز الأمانى أن تحيا البلاد حياة دستورية سليمة. كان يخاطب الأمة الليبية بكل أطيافها ومكوناتها ويستنهض الهمم لترك مخلفات الماضي والانطلاق نحو الحياة.. نحو ليبيا الجديدة التي ساندها العالم ووقف معها واحترم تاريخها ونضالها واعترف بها رغم ظروف الفقر والجوع والبؤس والجهل والتخلف.

نهضت ليبيا باستقلالها وتوحدت جهود أبنائها صوب البناء والتشييد وحاولت سد الثغرات ومعالجة الأخطاء وزاد أملها بانفتاح أجيالها الحديثة على التطور وملاحقة العالم بالتنوير والتغيير وإنجاز الكثير من المؤسسات والمرافق وخدمة الإنسان الليبي فوق أرضه. ورغم تعرض تجربة الاستقلال إلى النقد المتواصل ومحاولات التشويه والانتقاص من قدرها وطمس معالمها واعتبارها تجربة مزيفة وغير حقيقية.. رغم ذلك وغيره يظل الاستقلال والوصول إليه علامة من العلامات الرائعة والمضيئة في تاريخ ليبيا المعاصر الذي لايستطيع أحد القفز عليه أو التجني على تفاصيله.

يبقى يوم الرابع والعشرين من ديسمبر محطة وصل إليها الليبيون وانطلقوا منها لكي يصنعوا الاستقرار والهناء في وطنهم ليبيا الذي يرمي على الدوام بالأقزام وأشباه الرجال بعيدا وراء الشمس والتاريخ.