Atwasat

رفة عصفور

علي عمر التكبالي الأحد 27 أبريل 2014, 03:30 مساء
علي عمر التكبالي

"بيني وبينكم طريقٌ طويلٌ يقف في تلافيفه سيَّافٌ بعين في جبهته وعين في قفاه.. أن أكتب ما في قلبي احتضار، وأن أقول ما في صدري زفرة، وأن أصرخ في وجه الجلاد عبادة.. وكما تفعل العصافير حين تقف بين الهواء والهواء أكتب وأقول وأصرخ، فارتفع كما الحلاج في الهواء سحابة دماء بين السماء والبحر.

"المسلحون ليسوا همنا الوحيد"
تعال معي إلى المستشفى.. لا تجزع لن نزور طبيبًا، أو نعود مريضًا.. سوف نسير بين الردهات، ونلج إلى بعض الحجرات.. سوف نقابل قططًا سمانًا، ونطأ فئرانًا، وإن أمعنا النظر إلى الشقوق فسوف نلحظ صراصير تثقب الجدار المفتوق، وهي تسعى إلى رزقها في غياب البشر الذين أصبحوا تقريبًا جزءًا من المبنى الحجر.

أنصحك أن تمسك نفسك ولسانك، وأن تمضي في طريقك كأنك لم تر شيئًا.. فالخلق هنا لا يملكون الخلق الذي يرتاح لبسمتك أو نكتك.. ابلع لسانك، وصن إحسانك فما من أحد محتاج إلى نصيحتك.. الطبيب مغمورٌ حتى رأسه في الشغل، والممرضة رأت قبلك ألف رجل ورجل، والموظف المسكين لم يقبض ما يفك فيه عقدة الملل.

وهيا ندخل بحذر الفأر تلك الدار.. عجوز تمسك ركبتيها وتئن، وأخرى تحاول أن تلاحق ذبابة تطن، والسيدة الوقور القابعة في الركن تجأر وتحن إلى فراشها في ركن دارها، وتلعن بصوت خفيض مَن أحضرها.. بعض الحليب يتسرب بين شقوق البلاط، وحشرة سوداء تسعى بين أخاديد الملاط.. لا أحد يهتم، فالهم أكبر من الشكوى والذم.

هل قلت حجرة العناية المركزة؟.. هل تريد أن تجرني إلى مكن المآسي، وتستغل حماسي فتوقعني في التهلكة.. هل تريد أن يسبني الطبيب، ويرمقني البواب بلحظه الرهيب.. وليكن.. سوف أذهب معك... يا إلهي.. ما هذه الزحمة.. لغط وفوضى تصفع خد الورقة المعلقة فوق الجدار البائس تنادي باحترام الناعس، وأخرى تقول بصبر وقح: "الصبر مفتاح الفرج".

هل يدعي هذا "المعتوه" أن الطبيب أمر بإخراج أبيه ليمنح صديقه السرير؟.. وهل يريد ذاك "المتخلف" أن يفهمنا أن ابنه أُصيب بفيروس خطير؟.. أنصدق هؤلاء، ونكذب الطبيب؟.. أم نمضي في طريقنا -كما أوصيتك- في هذا الكهف العجيب.

ها.. سأستجمع شجاعتي، وأتخلى عن صمتي، وأمضي لأسأل الرجل العاقل الجالس على المقعد الخامل: "سيدي هل صحيح أن........" يا إلهي.. سامحني يا سيدي لا داعي لأن تدخل وجهي، وتجذع أنفي.. إنه مجرد سؤال!

حملت ضيفي وصديقي، وصدقت أن الميليشيات أنواع... منها مَن يسرق مركوبك في وضح النهار، ومنها مَن يخطف ابنك البار، ومنها مَن هو محتار بين أن يذبحك أو يرشك بالقار.. ومنها مَن لا يفعل من الذي سمعت شيئًا، ولكنه يشويك شيًّا فوق النار.

"التبو غاضبون"
اقترب مني الرجل الوجل، وقال في هدوء وأدب: "أتسمح يا سيدي ببعض لحظات، أخبرك فيها عن مأساتنا، وعن الظلم الذي أوقعه بنا سباتنا؟" جلست معه فوق الفنجان الساخن أتحرك يمنة ويسرة حتى لا أحترق، فمن السلام ما يحرق، ومن الكلام ما يقلق إذا ما اقترن بالصدق.

ملخص الحكاية يا سادة أن الرجل الضئيل الذي أتاني، كان يحمل همًا ويعاني الشعور بالدونية والأذية، والغبن والحزن، والغيرة والحيرة، والانعزال والإهمال، والقلق من التفريق والفرق... ملخص الحكاية يا سادة أن هذا الإنسان "التبوي" الذي ظل قابعًا في الجنوب منذ الأزل، لا يشعر إلا بالوجل.

قال إنه يستمع إلى الأخبار فلا يسمع إلا ما لا يرضيه، ويشاهد "التلفاز" فلا يرى إلا ما يؤذيه.. شعورٌ عامٌ بالطغيان والتفرقة والإهمال لمكوِّن بشري أبى إلا أن يلتصق بالأرض البعيدة كي تبقى ضمن الدولة العتيدة.. شعورٌ عامٌ بالحرمان من الخيرات والمال الذي يرتع فيه أهل الشمال، وشعورٌ عامٌ بالتصغير والتحقير، والإبعاد والاستعباد، والقتل العمد للهوية في مجتمع يدعي الوطنية.

قرأت في عينيه سطورًا عجيبة أنبأتني بجهلي لجغرافية بلادي، وأرتني مدى ضيق أفقي واعتدادي، الذي بنيته فوق الفوقية، فأوغل في ضلال العنصرية.

إخوتي الليبيين الطيبين، النائمين فوق فناجين القهوة الساخنة، الحالمين بغدٍ سيأتي بمشيئة الله، الدائسين بأحذيتكم الثقيلة فوق أوامر الله.. أستحلفكم بالله أن تراعوا شرع الله في الذين يعبدون الله.. وإن أصررتم على النوم فآذنوا بغضب الله.

"الحب من أعلى"
… وما شممتك قبيل ساعة القدر.
وما ضممتك إلا بعد أن
عدوت فوق غابة السحب،
وبانت الدّنا
كصدر أمي يحضن البحر،
وصارت المطر
بحيرة بأرجلي
تسحّ دمعها على الشجر،
فتنبت الدخان والشقاء والبشر،
وتنبت القلوب حتى تنكسر.
وساعة السفر؛
بشيء فيك أنبأني المطر.
لعله جنوح غيمة على مرافئ الشعر!
لعله ندى العيون حين تنهمر!
لعله تدفّق العروق فوق حرمة النحر!
ورغم التوازي في المذاق والمزاج والنزق..
ورغم التساوي في الدلال والسحر..
لديك شيء لا تملكه المطر؛
يداها باردة..
وكفّاك في سخونة الجمر.
لو أنني شممت ذلك العطر!
لو أنني ضممت ذلك الخصر!
لما تركتك،
ولا رغبت في السفر.

"كلمات تبكي"
- هل سمعت بالصباح الذي ينزف ليلاً.. إذن تعال إلى طرابلس.
- قالوا تذهب الخطى إلى حيث يزهى الخاطر.. تبعتني خطاي إلى المدينة القديمة.
- ما أروع البحر حينما يكون هادئًا، وما أروعه حينما يكون ثائرًا.. يذكرني بالبركان الخامد.
- في بلادنا مؤتمر.. في بلادنا لا مغلوب ولا منتصر.. في بلادنا شعب يحتضر.
- البارحة عثرت على جوهرة صغيرة.. حرت أين أضعها، فعلقتها في رقبة الكلبة.
- ارتفاع اليم يجيز له اجتياح الشاطئ.. السؤال المشكلة هل علا اليم، أم انخفض الشاطئ!
- يبنون بيوتهم بالطوب والأسمنت، ويغلقونها بالحديد، ويقرؤون: اللهم إجعل هذا بلدًا آمنًا".
- هناك مَن يظن أن ليبيا تمتد من البيت إلى الشارع، وما عدا ذلك فهو مباحٌ للغزو.