Atwasat

الحالة الليبية الراهنة: هو إمنين يودي على فين؟!

سالم العوكلي الثلاثاء 17 سبتمبر 2019, 06:13 مساء
سالم العوكلي

سبق أن تحدثت عن العبث في ليبيا بمفهوميه: الواقعي، الذي يسم الحالة الليبية الشاملة وطوال عقود، والافتراضي، الذي ميز كثيرا من الأعمال المسرحية، التي تبنت العبث رؤية فنية في محاولة فهم العبث في الواقع. صادفني حوار على الـ«يوتيوب» في إحدى القنوات الليبية (لم يكن واضحا اسم القناة ولا البرنامج)، لكن الشيخ الذي كانت تظهر خلفه عبارة (دار الإفتاء) كان يجيب عن الأسئلة التي يطرحها المشاهدون. وهذا الحوار، الذي سأورده كما وقع، يعكس إلى حد كبير حالة المواطن الليبي المرتبك (المتلخبط)، بينما الطرف الثاني، الذي إجاباته جاهزة لكل سؤال مهما كان معقدا، يجد نفسه في قلب متاهة هذه المحادثة التي تصلح لأن تكون مشهدا ملهما فوق خشبة مسرح، وبروح الفكاهة غير المتعمدة، التي تحمل سخرية مبطنة تجاه يقين طبقة الإكليروس، التي بدأت تتشكل في ثقافة مجتمع دينية وفي دين كان في الأصل مشروع ثورة على هذه الطبقة، التي تحكمت في العباد في الأديان السابقة، وأصبحت تملك صكوك الغفران وتأشيرات السفر المريح إلى الفردوس، تضع من تشاء في الجنة أو الجحيم، كما يحدث الآن في كثير من القنوات الإسلامية والمنابر، التي تحتكر خارطة الطريق إلى الجنة في داخل جلابيبها:

لو تابعنا كثيرا من الحوارات التلفزيونية سنجد الالتباس نفسه بين طرف يخسف الشك بلغته وقدرته على التعبير، وطرف واثق يملك كل الإجابات لكل الأسئلة دون تردد: وكان الحوار كالتالي:

- هشام من مصراتة.. تفضل يا هشام.
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام ورحمة لله.. تفضل.
ـ نبي نسألك.. حفل العرس متاع الزفاف.. قصدي إنهاء العرس قبل وقته يعني..
- كيف؟
- قصدي إنهاء وقت الزفاف قبل يبدا بمدة طويلة أو شوية.
- مافهمتش أنا.. يعني كيف إنهاؤه؟
- أنا باني عندي شقة في الحوش لكن العرس حسب ما اتضح انتهى، لكن حسب ما سمعت يوم الدخلة بس..
- مافهمتش راني سؤالك بالضبط أني.
- قصدي حفل العرس.. الزفاف يعني..
- الزفاف اللي هو العرس.. طيب.
- إنهاء العرس قبل يبدا بمدة يعني... وبعدين بيبدا العرس إن شاء الله يعني.
- تمام.. يعني المرأة بتروح قبل العرس قصدك لزوجها؟
- لا.. ما زال.
- إيه.. أنت بتقصد إنهم بدوا في جزء من العرس وبعدين أجلوه.
- لا.. هو تأجل العرس في الحقيقة.. تأجل مدة، لكن ما زال ما بداش يعني.
- العرس تأجل.. تمام.
- لكن ما زال ما بديتش فيه أنا.. قاعد نكمل في الشقة أنا.
- أنت عاقد عليها المرأة؟
- لا لا.. حتى خطوبة ما زال ماخطبتش.
- هههه أمالا على من بديره العرس؟
- لا.. مو أنا ظروف عملي تغيرت..................... إلخ.

ثمة شاب يرغب في الزواج، وشقة تبني، وعمل يتغير، ويوم دخلة، وعرس انتهى قبل أن يبدأ، وزفاف مؤجل إلى أجل غير معروف.. ورغم أن السؤال لم يظهر علامة استفهامه وتحول إلى كلمات متقاطعة، فإن هذه الكلمات المتقاطعة تشكل أزمة جيل برمته، كل أحلامه مؤجلة، وبالتأكيد حلها ليس في متناول الشيخ، الذي لا يملك في صيدليته إلا دواء الصبر، لأنها في الواقع تحتاج إلى دولة ومؤسسات وخطط من شأنها أن تجعل الأسئلة تستقيم حتى وإن كانت الإجابة صعبة. وهذه الحالة تعكس واقع الشخصية الليبية التي خرجت فجأة من عقود من القمع والقهر لتجد نفسها في قلب فوضى عاجزة عن فهم ما يحدث. ويذكرني المشهد بأحد الأفلام المصرية «رجب فوق صفيح ساخن» ورجب، الذي يؤدي دوره الممثل عادل إمام، صعيدي من قرية صغيرة لم يخرج منها أبدا، واحتاجت هذه القرية إلى آلة حرث «تراكتور» فجمعت مبلغ سعره واختارت رجب ليذهب إلى القاهرة باعتباره الفهلوي الشاطر على مستوى تلك القرية، وحين ينزل رجب في قلب القاهرة لأول مرة، ويحيط به الزحام والضجيج لأول مرة، يبدأ يلف حول نفسه وهو يطرح سؤاله على العابرين: هو إمنين يودي على فين؟

سؤال أصيل أعقب بعض الثورات العربية، التي خرج عبرها المواطنون من زنازين النظم السابقة، ليجدوا أنفسهم في قلب الزحام والضجيج الإعلامي، والقتال على السلطة والمال، والأجندات الدولية المتصارعة على جني ثمار هذا الربيع أو اجتياحه بخريف مستعجل.

هو إمنين يودي على فين؟! سؤال أصبح في فم كل ليبي بعد أن ضاعت البوصلة، وبعد أن تسلم دفة الباخرة الليبية السكرانة مجموعة من القراصنة، الذين جنحوا بها عن بر الأمان إلى خضم الموج والعواصف سعيا وراء بريق الذهب وصولجان السلطة، ومثلما وجد رجب نفسه في قبضة نصاب أنيق يغريه بكل الملذات القادمة وبكل المفاتن ليستولي على ثمن «التراكتور» الذي يخبئه بين ثوبه وجلده، ومثلما بدأت القرية تحلم على الأقل بعودة رجب الضائع حتى دون «التراكتور»، وقعت شعوبنا التي أسقطت نظم الاستبداد بين أيدي النصابين الأنيقين الذين أغروها بالرفاه والديمقراطية والمستقبل الزاهر، حتى تمكنوا من سذاجتها وأحاطوا أنفسهم بعصابات وشبكات فساد مركبة، وجعلوا من جديد سؤال المواطن هو الرغيف والأمن ليعود من حيث بدأ ربيعه القصير.

كان هذا الربيع الليبي «عرسا.. أو زفافا.. بدأ.. وانتهى.. ثم تأجل.. رغم أنه لم يبدأ»، وتحول سرده إلى كلمات متقاطعة يتأتئ بها هشام من مصراتة وكل مواطن يحاول أن يفهم وليس أمامه سوى شيخ تمكن من الدنيا كأنه جابها، ومن الآخرة كأنه قادم منها. لم يخرج الشيخ المتعطش لإعطاء الفتاوى بسرعة البرق بسؤال يروي عطشه، ولم يخرج السائل سوى بلعبة كلامية جمالها يكمن في عبثيتها، وعصيانها عن الفهم، وتهكمها العفوي على مؤسسة اليقين الواثقة من أجوبتها الحاسمة والنهائية.