Atwasat

في مهب الأيديولوجيا

محمد اقميع الجمعة 12 فبراير 2016, 05:17 مساء
محمد اقميع

منذ أن انهالت أكوام من العقائد والتيارات السياسية والدينية والاتجاهات المتناقضة والمتضاربة وتم احياء النعرات القبلية والجهوية والمظلوميات العرقية في الساحة الليبية والشعب الليبي تجتاحه حالة من البلبلة والاضطراب وفقدان التوازن النفسي والاجتماعي.

وقد كانت أولى حالات الانقسام ما بين مؤيد ومعارض للنظام ورغم انتصار المعارضة إلا أن الانقسام بين الفصيلين ظلَ قائماً والهوة تزداد اتساعاً. واللعبة لم تتوقف عند هذا الحد، فقد وجد الليبيون أنفسهم بين فكي رحى انقسام جديد واصطفاف حتمي آخر ما بين "إسلاميين" و"علمانيين" رغم أن الأغلبية لم يسبق لهم حتى مجرد سماع هذين المصطلحين من قبل، ولكن الاعلام وبواسطة التأكيد والتكرار المستمر قادر على نحت العقول وتشكيلها كيفما يشاء. وما لبث الليبيون على اعتياد الجدل الإسلامي / العلماني حتى اقتحم عقولهم جدل آخر ما بين فيدرالي ومركزي. وما بين كرامة وفجر، ومؤتمر وبرلمان وحكومة في الشرق، وحكومة في الغرب...!

وهكذا، وفي تسارع هستيري أصبحت تتوالد وتتكاثر التيارات السياسية والدينية والقبلية، لتطل على الساحة مسميات جديدة، كل تيار منهم ينقسم ويتشعب الى تيارات أخرى متنافسة ومتناحرة فيما بينها وكل فصيل تسانده مليشيا أو عدد من المليشيات المسلحة، وتلهث حشود من المؤيدين خلف هذا الفصيل وذاك. وكل منهم على يقين لا يقبل الشك بقياداته ومنظومته العقائدية. وبذلك استطاعت التيارات المتصارعة أن تجعل من الشعب مجرد أكوام بشرية مؤدلجة ومتنافرة، كل مجموعة لا تستمع إلا لنفسها وتتجاهل وتتغاضى عن كل ما لا يتوافق مع منظومتها الفكرية واتجاهاتها ولا يدين بالولاء لقياداتها. ولا يهم ما يحدث لليبيا طالما المليشيا أو القبيلة بخير.

وعلى سبيل المثال، معارضي نظام فبراير اليوم تملؤهم نشوة النصر، وكلما ازداد حجم الخراب والدمار في ليبيا ازداد يقينهم بصواب موقفهم، ونجاعة اختيارهم، وصدق نبوءات القذافي ونجله. ومؤيدي فبراير كذلك لا يختلفون عنهم وفرحون أيضاً بما لديهم، ومؤمنون بأن ما حصل في ليبيا من كوارث وحروب وقتل وترويع وافلاس للدولة فان سببه نظام القذافي في نظرهم ويحملونه كل المسؤولية عما حدث وما سيحدث، علاوة على اقناعهم لأنفسهم بأن موت القذافي كان أعظم أنجاز حققته فبراير.

وهذا ينطبق أيضاً على التيارات الأخرى المتناحرة، فلا أحد يجرؤ حتى على مجرد التفكير في السؤال: ماذا لو كنتُ مخطئاً؟ أو أن قناعاته واختياراته كانت خاطئة أو أنه كان ضحية خداع وقد أساء تقدير الأمور. ولا نعتقد بأن المسألة ترتبط بعدائية أو حقد أي من الأطراف المتناحرة تجاه بلدهم، بقدر ما تتعلق بشكل أساسي باضطراب ذهني لدى أتباع هذه التيارات وفقدان اتزانهم النفسي بسبب التناقض بين سلوكهم والمعتقدات والقيم التي يروجونها ويؤمنون بها.

الاعتراف بالخطأ والعجز والفشل والتقاعس كارثة يتحاشاها الجميع، لذلك دائماً هناك تبريرات جاهزة لعجزنا، وهنالك عجوز ميت في قبر مجهول مازالت كتفاه تحتمل حمل أوزار خطايانا واخفاقاتنا. وسنمضي بذاكرة انتقائية نُسقِط من أرشيفها كل ما قد يسيء لبطولاتنا الوهمية، ولا نصغي إلا لمن يشبهنا ويدعم رأينا ويرفد معتقداتنا المتهالكة. ولا ننسى طبعاً رؤوس الأموال "المجهولة" التي جعلت لكل قبيلة فضائية تحافظ على تماسكها وتشد من أزرها ضد بقية القبائل ولكل حزب ومليشيا فضائية يلتف حولها أنصارهم تدعمهم وتكفيهم شر كل من يشكك في عقائدهم المحصّنة. ولا ينسوا كذلك فضل مارك الذي منحهم ميزة حضر كل مختلف وجعل لكل فصيل مملكته الافتراضية.

ومع كل اصطفاف جديد تتبدل الشعارات والتحالفات وتتغير الأسماء والألقاب وحتى الأنساب وقوائم الأصدقاء، وتختفي فضائيات وتظهر أخرى، وتتغير قبلة السياسيين من عاصمة إلى أخرى لنصبح جميعاً في مهب أوهام الأيديولوجيا والاستقطاب، منهمكين في حروب سيزيفية لا معنى ولا نهاية لها، إلى أن نخسر أنفسنا ووطننا.

ولا أحد يجرؤ على أن يسأل نفسه: ماذا لو كنتُ مُخطئًا؟