Atwasat

عذاب الضمير

محمد عقيلة العمامي الأربعاء 22 يوليو 2015, 08:36 صباحا
محمد عقيلة العمامي

عذاب الضمير، هذه الجملة الغامضة، الطافحة بالندم، والممتلئة ببذور العقاب والقصاص. هذا الضمير الذي إن استيقظ، يخلق لصاحبة القضاة والمحلفين والمحامين.. والجلادين. هذا الضمير هو الذي سيأخذ حقنا كاملا، إن طال الزمان أو قصر، من أولئك الذين يتسابقون في تسفيهنا، وتضييع وطننا، وتشريدنا، وتجويعنا، ونقلنا من شعب آمن، مستقر؛ إلى زمر بائسة، حانقة، مفلسة، متشردة. فاسمعوا مني هذه الحكاية:

كان مشروع تخرجي سنة 1971م، ورقة حاولت فيها الإجابة على سؤال طرحة نقاد أدب القص والرواية، الذين تفاجأوا، وتعجبوا من انتحار الكاتب الكبير إرنست همنجواي برصاصة أطلقها من أسفل حنكه نحو دماغه مباشرة.

الحرب في ليبيا مستمرة، طوال الأعوام الأربعة الماضية، ولا أحد بمقدورة أن يحدد لي نوعية هذه الحرب!

حدث ذلك صباح يوم 2/7/1960م، حينها كان في قمة مجده. وقد اتكأت على جمل، وعبارات ترددت باتساع كتاباته يؤكد بها عبث الحياة، ورعونتها وتفاهتها عندما لا يستطيع المرء أن يستمتع بها كما يجب؛ كأن يتساءل عن فائدة الاستلقاء فوق فراش وثير من دون قدرة على نوم عميق، والتمتع برفقة من نحب؟ وما فائدة الأكل والشرب من دون صحة تتولى تذوقه وصرفه، وما فائدة البراري، والبحار من دون قدرة على التمتع بمناظرها، وقدرة على قنص حيواناتها؛ إن كان المرء محبا للصيد مثلما كان هيمنجواي؟ وما فائدة المال إن لم نستطع أن نحقق به أحلامنا؟

ظننتُ، عندما كتبت ورقتي، أن هيمنجواي انتحر لأنه لم يعد قادرا على الاستمتاع بمباهج الحياة، فقرر أن يضع نهاية لها، بعدما وصل عقده السابع. ولقد أشاد أستاذي المشرف على بحثي بوجهة نظري، وأجاز نجاحي!
بعد ثلاثة عقود وجد قارئ، بالصدفة، بكتاب من كتب مكتبة عامة، ورقة بخط هيمنجواي أخفتها زوجته، يوم انتحاره، تقول:

«لم أعد أحتمل، إنها تلاحقني ليل نهار، في عينيها الجميلتين نظرة عتاب مروعة، لم تكن خائفة مني. كم كنت نذلا! لم أقصد يا(أجي)، أنت تعرفين أنني لم أكن أقصد».

(أجي) هذه فتاة أحبها في شبابه، ورحلت عنه، وعرف أنها تزوجت من دوق إيطالي إسمه( دومينيكو كراتشيوللو ) فزارها، واحتفى زوجها به لأنه كان يعرف قصته معها مثلما يعرف ما صارت إليه مكانته الأدبية، التي توجت بفوزه بجائزة نوبل الأدبية، عن رائعته العجوز والبحر.

الحرب ستنتهي يوما على طاولة المفاوضات.

أقام الدوق على شرفه حفلة، توقفت فيها الموسيقى بعد سمع الناس طلقٍ ناري. وعمت الفوضى وشاهد الناس هيمنجواي، مندفعا من باب الحديقة وهو يخاطب نفسه:«لماذا؟ لماذا؟ (صارخا) رباه.. لماذا؟».

لم يعثر المحققون على المسدس، وإنما وجدوا(أجي) مثقوبة الرأس والدماء تغطي ثوبها الأبيض! وأقفل التحقيق بقوة نفوذ الدوق. ولكن قوة محققي ضمير هيمنجواي لم تتوقف طوال تلك العقود حتى نفذت حكمها عليه بتفجير رأسه بيديه، تماما مثلما تفجر رأس حبيبته الشابة الأمريكية(آغنيس فون كورفسكي) ملهمة روايته الشهيرة وداعا للسلاح!

الحرب في ليبيا مستمرة، طوال الأعوام الأربعة الماضية، ولا أحد بمقدورة أن يحدد لي نوعية هذه الحرب! هل هي حرب أهلية؟ أم آيدولوجية؟ أم غزو خارجي؟ أو تغول مدينة على أخرى، أم تصفية حسابات؟ أم أنها خلطة نتنة من هذه المسميات كلها؟

لن يتأثر المذنبون، لا بقرارات الاتحاد الأوربي، ولا بمجلس الأمن.

ولكن نعرف جميعا، ويقينا أن ليبيا سوف تودع يوما ما السلاح وتضع المليشيات(المذاري ) على التبن.. يوما ما، مهما طال الزمان. وهاهم يتحاورون، ويفسدون الحوار، ويتنابزون.. ويكذبون، وقليل منهم يصدقون ويعلقون فشلهم في إخراج ليبيا من أزمتها على مشجب(ليوني) ومؤامرات الغرب.. ولكن الحرب ستنتهي يوما على طاولة المفاوضات.. وسوف يطير كل من لم تقصف أجنحته، ولكن العالم صار أصغر من عقل أي زعيم يقود مليشيا في ليبيا.. وسوف تقام محاكم عديدة، يدان فيها من يدان، ويبرأ فيها من يبرأ! ولكن المحاكم الحقيقية سوف تنصبها ضمائر المتسببين في إشعال حرب ليبيا، وسوف تصدر أحكامها.. وقد يفجر بعض المتهمين رؤوسهم بمسدساتهم، وبالتأكيد سوف يفقد الكثيرون عقولهم، وسنراهم يذرعون شوارعنا، يعدون أوراق الأشجار، ويجمّعون قصاصات الورق، يستجدون بها تبريرا لما فعلوه ، وطمعا في مغفره قد نعجر عن تقديمها لهم.
هكذا هي الحياة .. وهكذا هو الضمير.

لن يتأثر المذنبون، لا بقرارات الاتحاد الأوربي، ولا بمجلس الأمن، ولا بمنظمات حقوق الإنسان، لأن التيه نفخ في أذانهم .. وسوف يتسرب هذا التيه والغرور ريحا نتنة .. توقظ ضمائرهم، وعندها سترى الثكالى كيف من لا يهمل يأخذ لهن حقوقهن كاملة غير منقوصة .. فهل من متعظ؟