Atwasat

داعش... يا داعش!

محمد الجويلي الثلاثاء 07 يوليو 2015, 10:51 صباحا
محمد الجويلي

داعش... يا داعش، ائتني بالشُرْبة ولا تنسَ الملعقة والشوكة أرجوك، أين التمر والماء يا داعش؟ ولماذا تتأخّر كالعادة معي فقط ولا تعدّ لي البريكة وتضعها أمامي قبل أذان المغرب ثم لا تنسَ سمكتي على المشوى؟.... يعلو صوت آخر: أين أنت يا داعش؟ هذا في طبعك. تفضّل خدمة الفتيات والنساء الحِسان على أصدقائك. تبتسم لهنّ وتهرول نحوهنّ هشوشًا بشوشًا لمجرّد إشارة بالإصبع من إحداهنّ، أمّا نحن فتتجاهل صراخنا وتتغيّر سحنتك وتكفهرّ في وجوهنا. يقهقه الجميع والشاب الأسمر النحيف والطويل القامة يركض يمنة ويسرة بالأطباق والأكواب وقوارير المياه بين طاولات مملوءة على آخرها بالزبائن ينتظرون موعد انتهاء الإمساك و«شقان الفطر» في يوم رمضانيّ قائظ بأحد مطاعم مدينة حلق الوادي الواقعة على ضفاف البحر في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة.

انتابتني الدهشة وأنا أستمع لأوّل وهلة إلى هؤلاء الشبّان ينادون «يا داعش ... يا داعش»، كما انتابت البعض من الغرباء الوافدين ذلك اليوم على هذا المطعم وبعضهم من التونسيين المهاجرين العائدين لتوّهم- والميناء الذي يستقبل البواخر القادمة من أوروبا لا يبعد إلّا بضعة مئات الأمتار من هنا- كما بدا على مظهرهم وسحنتهم ومن خلال اللوحات المعدنيّة لبعض السيارات الواقفة أمام المكان إمّا من فرنسا وإيطاليا أو أوربا كلّها عبر هذين البلدين لقضاء عطلة الصيف وللإمتاع والمؤانسة في رمضان الكريم في وطنهم وبين أهلهم وذويهم. هؤلاء لا شكّ أنّهم شجعان وانتصرت فيهم غريزة الحياة على غريزة الموت، وحبّ الوطن على حبّ الذات، فلم يتردّدوا في «ركوب الخطر»، ولعلّ البعض منهم تراجع عن تراجعه في العودة إلى حضن البلاد هذا الصيف بعد عمليّة سوسة الإرهابية التي راح ضحيتها العشرات من المصطافين في فندق على البحر، لربّما إحساسًا بالذنب والخجل لمّا رأى على القنوات التونسيّة سائحين أوروبيين يعبّرون عن تضامنهم مع تونس إمّا بالإعلان عن القدوم إليها قريبًا أو بالبقاء فيها بالنسبة إلى من سبق لهم القدوم إليها في الأسبوعين الأخيرين، بما في ذلك في مدينة سوسة نفسها في حين فضّل البعض الآخر من التونسيين البقاء في أوربا أو قضاء عطلته في بلد آخر مثل المغرب الشقيق يشتمّ فيه رائحة البلاد وأجواءها الرمضانيّة دون أن يلقي بنفسه إلى تهلكة ممكنة، وذلك من باب الحذر وعدم المجازفة بالنفس شعاره في ذلك ولعلّ في الأمر مبالغة «نعيش، نعيش ويموت الوطن» ولا يهمّ.

ممّا لا شكّ فيه أنّه في تلك اللحظات التي استمعوا فيها للنداء على داعش بمجرّد أن وطأت أقدامهم أرض تونس قد انتاب البعض من هؤلاء الذين فضلوا العودة إلى الدار، دار الهلال على البقاء غرباء في هذا الشهر الفضيل في ديار الصليب، الشكّ حول مدى صحّة خياره ولربّما ذهب إلى أبعد من ذلك تحت وطأة فوبيا الإرهاب التي بدأت تستبدّ بالجميع إلى تخيّل أنْ يمطر «داعش» الحاضرين بوابل من الرصاص كما فعل إرهابي سوسة ويقنصهم فردًا فردًا بدم بارد عوض أن يمطرهم بقوارير المياه الباردة وبضروب الطعام الساخنة، فيفطروا على حبّات الرصاص عوض حبّات التمر وهو سيناريو متخيّل ومرعب بكلّ تأكيد ومستبعد لكنّه غير مستحيل بالنسبة إلى من استبدّ به كابوس الإرهاب.

كل الشعوب، كثيرا ما تعمد في أقسى المحن التي تمرّ بها، حفاظا على بقائها وحتّى تستمرّ الحياة، إلى تحويل رموز الفناء إلى رموز بقاء والمأساة إلى ملهاة.

بعد انقضاء الدهشة الأولى في ثوانٍ معدودات والالتفات استغرابًا إلى بعضنا البعض نحن الغرباء على المطعم ابتسمنا جميعًا بسمة واحدة موحّدة خرجت من شفاهنا دفعة واحدة قبل أن ننتقل إلى مرحلة التساؤل. التفت إلى الشبّان المنادين على داعش وقد حان وقت الفطور وهم منتشون ضاحكون بفعل سريان الغذاء في أجوافهم وعروقهم والجميع غاطس فيما طاب ولذّ من المأكولات والمشروبات، وسألتهم لماذا ينادون هذا النادل بداعش وعن السبب الذي جعلهم يختارون له هذه الكنية دون غيرها التي لربّما تنتشر بين أترابه ومعارفه وجيرانه، علاوة على زبائن المطعم فتجلب له المضار وأنظار رجال الأمن ومكافحة الإرهاب، فيصبح محلّ متابعة وملاحقة ما فتئت تشتدّ من يوم إلى آخر في هذا الظرف، مشاكل هو المسكين في غنى عنها. أجابني أحدهم وقد قدم علينا «داعش» يحمل طبق «كسكسي بالسمك» أتعتقد أنّ هذا المسكين من الناس الذين يمكن الشكّ فيهم. معتوه من يشكّ في هذا الرجل مومئًا بإصبعه لداعش، فهو لا يقوى على إيذاء حشرة فما بالك بإنسان. الشيء الوحيد الذي يتقنه هو الانتصاب قبيل المغرب أمام المطعم قاطعًا الطريق «براكاج» [أصلها فرنسي] مستعملاً كلّ الأساليب -ماعدا العنف طبعًا- لإجبار المترجّلين وسائقي السيارات على الدخول إليه عوض الدخول إلى المطاعم المجاورة والمنافسة، وهذا هو السبب الذي جعلنا نطلق عليه كنية «داعش». قلت لهم والأفضل هو تلطيفها بتصغيرها فتكون «دويعش» على وزن «فويعل»، وهي أقلّ وطأة على النفوس من داعش -وقد استحضرت للتوّ تصغير الليبيين لكلمة حاج «يا احويج» التي طالما لفتت انتباهي واستطرفتها وينادون بها كبار السنّ عمومًا وليس الحجّاج فقط على سبيل التربيج والتدليع وهم في ذلك الاستثناء الوحيد على حدّ علمي من بين الشعوب العربيّة التي تصغّر الحاج تعبيرًا عن المحبّة، وهو تصغير «عاطفي»، كما يطلق عليه النحاة الفرنسيون ( diminutif affectueux) ويعادله في الإنجليزية مصطلح (Pet noun) وموجود في كلّ الثقافات، وهذه مسألة على غاية من الأهمية لكونها تكشف عن العلاقة المرحة والفكهة التي تربط الشعوب على خلاف غالبية فقهائها ورجال دينها بالمقدّس لا يسمح السياق بتفصيل القول فيها الآن.

انخرطت بدوري في اللعبة الخطيرة للتسمية وتجرّأت على مناداة النادل الذي تبيّن أنه يُدعى محمّد مثلي «يا دويعش» طلبًا لعصير ليمون..... فالتفت مناديا «يا عائشة»، وهي فتاة تعمل في المطعم مسؤولة على المشروبات الغازية والعصير «واحد سيترون» قال لها. التفت إلى الجماعة وقلت لهم لماذا لا تسموّنها «داعشة» عوض عائشة ويكون ختامها مسكًا في هذا المطعم «داعش وداعشة» تمامًا مثل «حسن وحسين!». انضمّ إلى حديث الإمتاع والمؤانسة بعد أن وصل تأثير الغذاء والشراب إلى الرؤوس وبلغت بنا النشوة مبلغها مهاجران قدما من فرنسا عشيّة اليوم نفسه وتعالت ضحكاتهما -التي بدت لي مبالغًا فيها ولكن المبالغة هنا مفهومة ومقبولة- تعبيرًا عن فرحتهما بتقضية ما تبقى من ليالي رمضان في البلد وللتدرّب من الآن على الضحك لأنّ أوّل الغيث قطرة. فرمضان صوم في النهار وضحك في الليل للبعض. النهار للّه والليل للوطن، بل للبطًنْ ولا يهضم ما في البطون غير الضحك كما قال أبو عثمان الجاحظ تعليقًا على صديقه البخيل محفوظ النقاش.
لم يعد وجود داعش في تونس مقتصرًا على جبل الشعانبي ولا على الخلايا النائمة أو المتمتعة بغفوة بسيطة أو قيلولة خفيفة في بعض المدن والأرياف والشواطئ، وإنّما بدأ يتسللّ إلى اليومي بلغة الإنتروبولوجيين ويخطّ له دروبًا بين الموائد وأطباق الأطعمة والغلال للنفاذ إلى العمق: إلى البطون كما بدأ يتسلّل للخيال والعقول ويتسرّب إلى الضحك والدعابة الشعبية وصار على الأقّل في هذا المطعم جزء من الفولكلورالرمضاني المسلّي الضاحك والمضحك مثل الكاميرا الخفية الحديثة وأبطال القصص والحكايات الشعبية العتيقة التي طالما أمتعت نوادرهم وطرفهم التي يرويها الحكواتيون والرواة على امتداد القرون في الأسمار الرمضانيّة. إنّ إطلاق تسمية داعش على هذا النادل الظريف الطريف لا يُمكن فهمها إلّا بهذه الرغبة اللّاواعية في ترويض المتوحّش وتدجينه وتصييره أليفًا. الشعوب، كل الشعوب، كثيرًا ما تعمد في أقسى المحن التي تمرّ بها، حفاظًا على بقائها وحتّى تستمرّ الحياة، إلى تحويل رموز الفناء إلى رموز بقاء والمأساة إلى ملهاة.