Atwasat

الخطوة الأولى في سلم الحضارة

عمر الكدي الإثنين 06 مايو 2024, 07:58 مساء
عمر الكدي

تقول الأنثربولوجية الأمريكية مرغريت ويد إن أول خطوة تعتبرها بداية الحضارة عندما عثروا على آثار كسر في عظمة الفخد لإنسان تعود إلى مرحلة الصيد. وقد تمكنوا من تجبير الكسر، وعاد صاحب الساق لممارسة الصيد.

توضح ويد أن مثل هذا الكسر في عالم الحيوان يعني الموت لا محالة، فالضحية لن تتمكن من الصيد مرة أخرى. كما أنها لا تستطيع الذهاب للنهر لشرب الماء، وحتى لو زحفت ستكون لقمة سائغة للحيوانات المفترسة، ولكن ليتمكن الشخص المكسور من التعافي، فلا بد أن أشخاصا آخرين ساعدوه، وأحضروا له الأكل والشرب وهو ينتظر في الكهف، مما يعني أن مجتمعا إنسانيا تكّون في مرحلة الصيد، يراعي فيه القوي الضعيف والكبير الصغير.

يعتقد العلماء أن الإنسان العاقل غادر شرق أفريقيا باتجاه الشرق الأوسط، ومن هناك انتشر في كل العالم، قبل أن يؤسس أول المجتمعات الزراعية في فلسطين وبقية بلاد الشام، وهذا الإنجاز الكبير حققته المرأة، ففضولها هو الذي جعلها تكتشف الزراعة. كان الرجال يخرجون للصيد وتبقى النساء في الكهوف لتهتم بالأطفال، وخلال تجوالها قرب البيت كانت تجمع النباتات البرية، بما في ذلك الحبوب، وعند عودتها كانت بعض الحبوب تتساقط منها، وبعد هطول المطر تنبت الحبوب مرة أخرى، ولاحظت أن الحبة الواحدة تنبت الكثير من الحبوب، فأخذت تخزن بعض الحبوب وتطبخ الباقي، ثم مهدت الأرض، وزرعت تلك الحبوب لتظهر كمية من الحبوب تكفيهم لزمن طويل.

اعتقد الرجل أن المرأة ليست فقط قادرة على الإنجاب، وإنما أيضا قادرة على أن تجعل النباتات تتكاثر، فقدسها. تسمى تلك المرحلة «المرحلة الأمومية»، حيث يُنسب المواليد لأمهاتهم وليس لآبائهم، إذ تولت المرأة زراعة البذور والمحاصيل دون الرجل، لاعتقاده أنه غير قادر على الإنجاب، وهو سر خُصت به النساء فقط، لذلك عبد الإنسان في هذه الفترة آلهة تحمل أسماء أنثوية وقدم إليها القرابين، وكانت المرأة تورث فقط بناتها وليس أبناءها الذكور، ولا تزال تلك الأعراف موجودة عند الشعوب القديمة، ومن بينها الطوارق، فزعيم القبيلة عندما يموت يرثه في الزعامة ابن أخته وليس ابنه، بينما كان الإله أنثى مثل اللات والعزى ومناة وعشتار وفينوس وإيزيس وتانيت.

حققت الزراعة تغييرا كبيرا في مسيرة الإنسان، خاصة عندما توسع في الزراعة في بلاد الرافدين وعلى ضفاف النيل. لم يعد في حاجة لرحلات الصيد المرهقة والخطيرة، خاصة بعد استئناس الحيوانات واستخدامها في الزراعة. صنع المحراث الخشبي في فترة مبكرة قبل نحو 10 آلاف سنة. كان الرجل يحرث الحقل باستخدام الثيران والحمير، ثم يترك النساء لتزرع الحبوب تبركا بقدرتهن على الخصب والإنجاب.

الخنزير هو أول حيوان استأنسه الإنسان في بلاد الرافدين، وبعد استئناس الماشية تحول الخنزير إلى حيوان ملعون في كل المنطقة وعند جميع الأديان التي ظهرت بها، بل جعلوا الخنزير البري مسؤولا عن مقتل الإله أدونيس، وهو ما نجده أيضا عند الإغريق. كما أن الإله أودن في سوريا قتله خنزير بري. هل هذا حدث بسبب تجارب مؤلمة خلال ترويض الخنزير البري، فهو حيوان سريع وأنيابه قاتلة، وقد يكون قتل العديد من البشر قبل ترويضه. كما لاحظ الإنسان أن الخنزير يأكل حتى فضلاته، فعافه. ربما لهذه الأسباب مجتمعة حُرم أكل لحم الخنزير في الديانات القديمة، ثم الديانات التوحيدية.

في هذه الفترة ظهرت الأديان كمعرفة شعبية، لتجيب عن أسئلة المصير: من نحن ومن أين جئنا وإلى أين سنمضي؟، وهي أسئلة جاوب العلم الحديث عن بعضها، ولا تزال بقية الأسئلة دون جواب. كانت الشمس أول معبود في كل المنطقة، وأيضا في الصين واليابان، وعند سكان أمريكا وعند القبائل الجرمانية. أما المصريون القدماء فأطلقوا على الشمس اسم الإله رع، واعتبروا أنفسهم قطيع رع، ومع مرور الوقت والتوسع في بناء المدن التي يتوسطها المعبد وقصر الحاكم، ظهرت طبقة الكهان، لتضمن خضوع الرعية ليس للراعي الأعلى، أي الإله، وإنما لوكيله على الأرض أي الحاكم الذي تأله، وأصبح ابن الله من زوجة بشرية.

هذا ما حدث مع الحكام في مصر والعراق وحتى اليونان، حيث اعتبر الأسكندر الأكبر ابن الإله زيوس، على الرغم من أننا نعرف والده البشري فيليب، واعتبر الرومان هرقل أيضا ابن زيوس، ولكن عندما سيطر الأسكندر على مصر، عمده كهنة آمون في معبده بسيوة ابنا للإله المصري.

لاحقا اعتبر ملوك أوروبا أنهم ظل الله على الأرض، فلا يمكنهم الادعاء أنهم أبناء الله وعقيدتهم المسيحية مبنية على أن المسيح ابن الله.

في التوراة يصارع الإله إيل داوود طوال الليل، وعندما يوشك النهار على الظهور يستسلم الإله، ويطلق على داوود اسم إسرائيل أي صارعُ الإله أو آسر الإله، ويصبح الشعب الذي يقوده داوود شعب الله المختار، وهذه العقائد لا تزال حية حتى اليوم.

يبدو أن التوراة التي كتبت في الألفية الأولى قبل الميلاد كتبت على مدى زمن طويل قبل السبي البابلي وبعده، وخلال السبي تأثر اليهود بمعتقدات بلاد ما بين النهرين وأساطيرهم، وهذا ما يرصده الباحث العراقي في تاريخ الأديان خزعل الماجدي في كتابه «أنبياء سومريون»، حيث إن عشرة من ملوك سومر أصبحوا أنبياء في العهد القديم، وتبدأ القائمة بآدم وتنتهي بنوح. كما أن العهد القديم يحفل بقصص متناقضة إذا أخذناها بحرفيتها. أما إذا تجاوزنا ذلك واعتبرناها لغة مجازية، وقصصا تعكس طفولة البشرية وهي تبحث عن إجابة لأسئلتها المقلقة، فيمكننا التصالح معها.

تقول التوراة إن ابني آدم قايين (قابيل) وهابيل قدما قربانيهما للإله، وكان قايين مزارعا وهابيل راعيا، فقبل الإله قربان الراعي ورفض قربان المزارع، وهي الحادثة التي تسببت في أول جريمة في تاريخ البشرية وفقا للسردية التوراتية. هل كاتب التوراة، ولعله الحبر عزرا الكاتب، أراد أن يقنعنا أن الإله ليس نباتيا ويفضل أكل اللحوم؟ أم أن القصة تعكس الصراع بين الفلاح والراعي الذي لا يزال مستمرا في بعض مناطق العالم مثل دارفور؟ آخذين بعين الاعتبار أن العبرانيين كانوا قبيلة بدوية تمتهن الرعي، ولهذا ينتصر الراعي بقبول الإله قربانه، ولكنه يموت في الواقع، وكأن عزرا الكاتب كان يدرك أن المستقبل للفلاح وليس للراعي.

ماذا سيحدث بعد الموت؟ سؤال أرق الإنسان طويلا عندما أدرك أنه كائن فانٍ، وأجمعت جميع الأديان المتعددة الآلهة والتوحيدية على وجود اليوم الآخر ويوم الحساب، وسيبعث الإنسان مرة أخرى، ويعيش خالدا سواء كان منعما أو معذبا، ولكنها اختلفت في تصوراتها، فالسومريون والبابليون اعتقدوا أن جسد الإنسان سيفنى، أما روحه فتتحول إلى طائر أثيري مثل الشبح، وسيخلد في عالم من الطمأنينة والسلام، والمصريون القدماء اعتقدوا أن الجسد ستُبعث فيه الروح مرة أخرى، لهذا حنطوا جميع موتاهم، وسيحاسب الإله أزيوريس جميع الناس مستخدما ميزانا وريشة، فإذا كان وزن الريشة أثقل من قلب الإنسان تعود الروح إلى جسده ويبقى خالدا، وإذا كان وزن قلبه أثقل من الريشة يلقى لوحش يلتهمه ولا يبقى منه شيء، يعني تجرى له عملية «ديليت» بمصطلح العالم الرقمي اليوم.

لا يقبل العلم الحديث النصوص الدينية باعتبارها وثائق تاريخية، والسبب أن كل القصص الدينية في جميع الأديان لا تذكر الزمن، فمن خلال الأحافير نعرف على وجه التقريب متى ظهر الإنسان العاقل، ولكن لا نعرف متى خلق آدم وحواء، ومتى حدث الطوفان، ومتى ظهر إبراهيم وموسى وسليمان وغيرهم.

علماء الآثار الإسرائيليون لم يجدوا أثرا واحدا لأنبياء وملوك بني إسرائيل في فلسطين وسيناء طوال أكثر من سبعين عاما من التنقيب، وهذا يجعل العلم مترددا في قبول السردية الدينية باعتبارها حدثا تاريخيا، ويفضل الاستمرار في التنقيب في طبقات الأرض، لعله يعثر على بقايا أسلافنا الغابرين، فالجواب عن تلك الأسئلة موجود تحت أقدامنا.