Atwasat

يؤتي الحكمةَ من يشاء

سالم العوكلي الإثنين 05 يناير 2015, 10:58 صباحا
سالم العوكلي

الكوكب برمته حَزنَ على موت رجل.

هذا عنوان لن يتكرر إلا عبر قرون من تاريخ البشر فوق هذا الكوكب، فكيف اكتسب نيلسون مانديلا هذا الحب العالمي لشخصه؟ كيف تحول إلى أيقونة قرن ودنيا كاملة؟ كيف لا يختلف عليه اثنان في كل اللغات والألوان والأديان؟

اكتسب مانديلا هذا الزخم، ليس لأنه ناضل طيلة حياته، وليس لأنه أشهر سجين سياسي في العالم، فهذا العالم وذاك القرن مليء بالمناضلين والسجناء السياسيين والمقاومين والمحاربين من أجل قضايا. ما تفرد به مانديلا هو قيمة إنسانية نبيلة لا يختم المناضل سيرته بالمسك إلا بها، وتجعل من روح الضحية أغنية كونية يسمعها الجميع دون حاجة إلى ترجمة، ومن الألم ملحمة شعرية إنسانية في هجاء كل ما يبدد القيم الإنسانية. القيمة التي جعلت من فتى أطلق عليه أبوه اسم دوليهلالا(المشاغب)، وعمل حارسا لمنجم، وكان يرتدي لباسا أُهدي له لمدة خمس سنوات متتالية حتى أصبحت الرقع، كما يقول في سيرته، أكثر من القماش الأصلي. هذه القيمة التي جعلت من دوليهلالا رمزًا تاريخيًا هي التسامح، تسامح المنتصر الذي أحال ملحمة القهر والألم إلى أنشودة لا تخفت للسلام والتعايش.

فلو خرج مانديلا من السجن، واعتلى كرسي الرئاسة، وفكر في الانتقام من جلاديه وجلادي شعبه، لابتلعه التاريخ مثل الكثيرين من الثوار الذين تحولوا إلى طغاة بمجرد انتصار ثوراتهم.

يقول في رسالته الأخيرة الموجهة إلى دول الربيع العربي: «لا زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح. كان يوما مشمسا من أيام كيب تاون. خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف يوم. خرجت إلى الدنيا بعد أن وُورِيتُ عنها سبعا وعشرين حِجةً لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد، ورغم أن اللحظة أمام سجن(فكتور فستر) كانت كثيفة على المستوى الشخصي، إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلاً؟، أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير. وهو سؤال قد تحُدّد الإجابة عنه طبيعةُ الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم».

المؤتمر الوطني الذي اختاره الليبيون، كأول سلطة عليا منتخبة في تاريخنا، كان من أولويات مهامه العمل على تحقيق المصالحة الوطنية، رمى بمهمته وبأحلام من انتخبوه عرض الحائط، وحرر قانون عزل سياسي عزل به نصف المجتمع

كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلاً؟. هذا السؤال البارقة هو حلم يقظته الذي جعل منه أحد أهم شخصيات القرن العشرين. وفي تلك الرسالة وجَّهَ عصارة تجربته الملهمة نصيحةً إلى الربيع العربي: «أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة.... أذكر جيدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحدٍ واجهني هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك، وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل، ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد. لذلك شكلتُ «لجنة الحقيقة والمصالحة» التي جلس فيها المعتدِي والمعتدَى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر. إنها سياسة مرة لكنها ناجعة».

ولم تجد هذه الموعظة آذانا صاغية لدى من تقلدوا مسؤولية بناء دولتنا بعد النصر، فتحولوا إلى وحوش عمياء، وتخلوا عن حلم الليبيين الذين ضحوا من أجله في خضم تعطشهم إلى الانتقام وتصفية الحسابات، وهل لمن يمتلئ قلبه بالحقد والضغينة مكان للحلم؟.

المؤتمر الوطني الذي اختاره الليبيون، كأول سلطة عليا منتخبة في تاريخنا، كان من أولويات مهامه العمل على تحقيق المصالحة الوطنية، رمى بمهمته وبأحلام من انتخبوه عرض الحائط، وحرر قانون عزل سياسي عزل به نصف المجتمع، وأصدر قرارات بغزو مدن ليبية وتهجير سكانها بحجة أنها كانت مع النظام، وأنشأ بعض أعضائه وكتله ميليشيات تعيث في الأرض فساداً، ولم يغادر القبة حتى وضع بنية تحتية صلبة لحرب أهلية تأكل الأخضر واليابس. أصبح الثوار وحماية الثورة تعويذته المحصنة لإقصاء كل رأي مخالف، وهنا يكف الثائر عن كونه ثائرا ويصبح وحشا هائجا لا يرتوي من الدم والأشلاء، فسيرة الثائر لا تكتمل إلا بالخجل، وبقدرته على أن يتجاوز الماضي بكل آلامه، ليبني دولة جديدة تتمتع بالقيم التي من أجلها تألم ودفع ثمنا باهظا من حريته ومن دمه. وهذه القدرة على كبت غرائز الانتقام والعفو عند المقدرة هي التي جعلت الكوكب برمته يملؤه الحزن على رحيل مانديلا.

يقول مانديلا في سيرته: «حينما خرجت من السجن كانت مهمتي هي تحرير الظالم والمظلوم، وقد يقول البعض إنه قد تم إنجاز ذلك، ولكني أعلم أن هذا غير صحيح، فقد خطونا الخطوة الأولى على طريق أطول وأصعب، فلأن تكون حراً لا يعني فقط أن تلقي بقيدك، لكن أيضا أن تعيش بطريقة تحترم وتعلي من حريات الآخرين».

مانديلا لم يأتِ من فراغ، لكنه تعلم من التاريخ، ومن سِيَر أنبياء وزعماء روضوا وحشية التاريخ بأرواحهم العاشقة للإنسان والسلام؛ عيسى المسيح، النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ثم المهاتما غاندي، مارتن لوثر كينج. لذلك لا ينسى في نهاية رسالته أن يذكرنا بتاريخنا ووجداننا، وببارقات المنتصر حين يجعل من نصره على الطغيان درسا عظيما في مدرسة التسامح والمصالحة الشاملة، تحيل المجتمع الجديد إلى بنيان واحد مرصوص بدل أن تلقي فيه هواجسُ الثأر بذورَ حروب أهلية تبدأ ولا تنتهي، تلك الحروب التي تجعل من ضحايا الاستبداد يحنون إلى زمن الاستبداد طالما كان يعطيهم الأمن. هل ثمة فشل لثورة يضاهي هذا الشعور الذي بدأنا نلمسه في عيون الناس الصامتة.

يقول مانديلا في نهاية رسالته ليذكرنا بتاريخنا ونبينا عليه الصلاة والسلام: تخيلوا أننا في جنوب إفريقيا ركزنا– كما تمنى الكثيرون- على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم؟ لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنساني اليوم. أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».